اغتيال بوضياف
من هو ؟ إنه من قدماء جبهة التحرير الجزائري، لكن بعد الاستقلال تم التنكر له ككثير من المجاهدين الشرفاء من قبل جنرالات فرنسا الذين سيطروا على الجبهة بعدما إخترقوها،هؤلاء الجنرالات لم يلتحقوا بالجبهة الا قبل أشهر قليلة قبل الاستقلال واعلنوا أنهم نادمون على خيانتهم، لكن يتضح ان العملية هي اختراق فرنسا للجزائر عبر هؤلاء الخونة.لان الخائن يظل خائن...
بعد الانقلاب العسكري في الجزائر يوم 11 يناير (كانون الثاني) 1992 أراد جنرالات الجيش القمعيون إيجاد وسيلة لتهدئة المواطنين الساخطين إثر إيقاف المسار الانتخابي من جهة وإبعاد الجيش من واجهة قيادة الدولة من جهة اخرى. كانوا يدركون أن في مصلحتهم التحرك وراء حكومة يزعم أنها مدنية. تفاديا لانتقادات الدول الغربية التي رغم ارتياحها لعدم وصول الجبهة الاسلامية للإنقاذ إلى الحكم- لا تستطيع دعم دكتاتورية عسكرية مباشرة.
وتعيّن على الجنرالات وهم: خالد نزار وعبد المالك قنايزية ومحمد العماري ومحمد تواتي ومحمد مدين إيجاد رئيس للدولة يتمتع بمواصفات معينة وتتوفر فيه معايير محددة. وكقاعدة انطلاق فقد كان المعيار الاول مفروغا منه. فالشخص الذي يقع عليه الاختيار يجب ان يكون من قدماء المجاهدين وله ماض لا يُعاب وان يكون -ان امكن - ضحية لنظام الشاذلي وحتى لنظام بومدين, كما يجب ان يكون بعيدا كل البعد عن كل الانقسامات السياسية.
ولم تكن هذه المعايير المحددة متوفرة لدى الكثيرين ممن يمكن ترشيحهم لمنصب رئيس دولة, ويكاد يكون من باب الصدفة ان وقع اسم محمد بوضياف على لسان الجنرال نزار, فبوضياف رجل ذو وزن ثقيل وتتوفر فيه كل الشروط المطلوبة. لكن المشكل الكبير الذي كان مطروحا, هو هل سيقبل السيد بوضياف بمنصب محرج وقد ابتعد عن السياسة منذ زمن بعيد ليتفرغ كلية لاعماله الخاصة واسرته حينئذ, قرر الجنرالات ارسال (صديق قديم) لابلاغه بالاقتراح.. وكان ذلك الصديق هو علي هارون, وكانت مهمة هذا الأخير حساسة جدا. حيث حبس جميع الجنرالات الذين كانوا في الامانة العامة لوزارة الدفاع الوطني أنفاسهم في انتظار الجواب بالقبول أو الرفض من طرف بوضياف.
وفي المغرب, التقى الصديقان في بيت السي محمد (بوضياف), حيث أطلع علي هارون بوضياف على هدف زيارته بعاطفة جياشة. فوعده بوضياف الذي تأثر بالعرض من دون ان يتفاجأ به بالتفكير في الموضوع وابلاغهم بما يقرره في اقرب الآجال. وبعد مشاورات مع اسرته وصديق آخر له يعمل طبيبا, وافق بوضياف على الطلب ليس لعظمة المنصب, بل لأن الساعة تنذر بالخطر في الجزائر والوضع الذي اطلعه عليه علي هارون ينذر بالكارثة.
وباشر بوضياف اتصالاته الاولى من المغرب حيث اتصل باعضاء قدامى في حزب الثورة الاشتراكي واطلع الملك الحسن الثاني على الموضوع الذي اعتبره هدية السماء طامعا في ان تجد ازمة الصحراء الغربية عندئذ مخرجا لها.
وابلغ علي هارون جنرالات الجزائر (البينوشيين) الذين ظنوا انهم وجدوا حلا للازمة الدستورية التي تهدد مصالحهم الشخصية فاعلنوا الخبر للعامة وبدأوا في التحضيرات استعدادا لاستقبال منقذ الجزائر. وتم اطلاع حكومة باريس بهذا الاختيار في نفس الليلة التي قرر فيها النظام الفرنسي الاتصال ببوضياف الذي كان معروفا لدى الفرنسيين لشغله منصب ضابط مساعد في الجيش الفرنسي سابقا وحوزه على ميدالية عسكرية وصليب الحرب الفرنسية. اذن ليس هناك من اختيار من شأنه ان يرضي اصدقاءهم فيما وراء البحر اكثر من هذا الاختيار؟ وبالتالي تكون الثغرة قد سُدت واعيدت الشرعية للقيادة السياسية في البلد وكان نزار ساهم شخصيا في تزكية بوضياف رئيسا على رأس المؤسسة العسكري غير ان بعض الضباط السامين في الجيش الذين شجبوا هذا الخيار اعتبروا هذه الخطوة اهانة لهم. فلم ينسوا ان هذه الشخصية الثورية (بوضياف) انحازت لجانب الملك الحسن الثاني ايام المسيرة الخضراء التي ادت الى نشوب حرب الاخوة راح ضحيتها مئات الجنود الجزائريين دون ذكر الذين اعتبروا في عداد المفقودين والمعتقلين.
لم يشك بوضياف (73 سنة) انه عائد الى الجزائر لشغل اعلى المناصب القيادية والقاضي الاول في البلاد فيها وانه سيعامل معاملة الملوك. وكونه قضى مدة طويلة بعيدا عن الجزائر شكل له عائقا الا ان ذلك يخدم نسور وزارة الدفاع الوطني خدمة كبيرة.
بيد انه بمجرد وصوله الى قصر الرئاسة ادرك بوضياف بسرعة نسبية متطلبات حياته الجديدة. وسرعان ما بدأ يكشف اسرار دولة على وشك الخراب على كل الاصعدة. والاخطر من ذلك انه وجد نفسه على حافة حرب اهلية مستترة وراء تقارير امنية كاذبة. (كان يوقع على كل الاجراءات الامنية المتخذة ضد مناصري الجبهة الإسلامية للانقاذ الذين كانوا حسب تلك التقارير يعرضون مستقبل الجزائر الى خطر عموم الفوضى الشاملة). لقد كان بوضياف مقيّدا من قبل صناع القرار في وزارة الدفاع الذين شاطرهم آراءهم في البداية على الاقل من دون اي تعليق او تعقيب.
ومع مرور الوقت شرع بوضياف في التحرر وحاول جلب المقربين منه حوله وتنصيب اصدقائه الاوفياء على كل المستويات. لكنه لم يجد صدى كبيرا لدى ضباط الجيش الذين الغوا مراسيم تنصيب العديد من الاشخاص الذين ارادهم بوضياف حوله فيما كثرت الشجارات الشفوية مع مسؤولين سامين في وزارة الدفاع لان هؤلاء كانوا يصدرون اوامر مناقضة لاوامره. كما تقلص نطاق حرية عمله تدريجيا بتدخل من الجيش. وكانت كل اتصالات بوضياف مسجلة ومراقبة على الدوام وعن قرب واذا دعت "الضرورة" للتخلص من الشخصيات التي كان يتصل بها بوضياف, فإن قناصي الجنرال توفيق رهن الاستعداد للقيام بالمهمة.
لم يتفطّن بوضياف ان مساندة شعبية شرعية وقوية هي الوحيدة التي تمده بقوة كافية لاجراء التغييرات التي يراها ضرورية لاخراج الجزائر من ازمتها الا في نهاية المطاف. لكن هذه التغييرات لم تُعجب القوى الغادرة في السلطة لأن لهذه القوى التي كانت تملي سيناريوهات السياسة الجزائرية في مختلف الأوقات أهداف أخرى. وقد أوصى بعض الأوفياء في السلطة بوضياف باتخاذ الحذر كما تعرض رئيس مكتبه لمضايقات عن طريق الهاتف تارة ومبعوثي وزارة الدفاع الوطني الذين طلبوا منه تهدئة السي محمد تارة أخرى لأن هذا الأخير (بوضياف) كان كثيرا ما يتخذ قرارات من دون الرجوع الى قادة وزارة الدفاع.
وما زاد الطين بلة قرار بوضياف ورأيه المتصلب لاعادة محاكمة الجنرال بلوصيف (أمين عام وزارة الدفاع في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد), وبهذا يكون قد رفع تحديا جريئا في وجه بارونات الجزائر. عزم بوضياف على المضي في ذلك بعد مشاورات كان أجراها مع قاصدي مرباح (مسؤول المخابرات العسكرية سابقا). وتجدر الاشارة الى أن هذين الرجلين كانا يعرفان بعضهما البعض جيدا ومن نفس التيار السياسي. ولهذا السبب, تعهد مربا ح بمساندة هذا الرجل الذي كان يكن له الاحترام نفسه الذي كان يكنه للسيد عبد الحفيظ بوصوف.
وشكلت مساندة قاصدي مرباح نصرا كبيرا لبوضياف خاصة وأن هذا الأخير يعد من دون شك من القلائل المطلعين على الحقيقة الجزائرية. كما يعرف من هم الأعداء اللدودين في السلطة ولمحاربتهم كان بحاجة الى رئيس مثل بوضياف لدعمه. وكانت اتصالات مرباح واسعة ومهمة بما فيها توفيق الذي كان يشغل رتبة ملازم ثان ضمن الجيش (SA) عندما كان مرباح يشغل منصب قائد الأمن العسكري (SM). فقد استطاع أن يحصل على وعد بالمساعدة تمثل في ضمان نزاهة ضباط الأمن بخصوص التغييرات التي كان الرئيس بوضياف ينوي ادخالها لاخراج البلاد من أزمتها. وبات قيام توفيق بدور مزدوج في لعبة واحدة أمراً ضروريا. ويذكر أن منصبه حينئذ, كان غنيمة تكالب عليها حساد آخرون كانوا خطيرين هذا وزادته معرفته لحقائق وتصرفات بوضياف مزايا عن غيره.
لما حان وقت محاكمة الجنرال مصطفى بلوصيف مجددا قام الجنرال توفيق بنشر تفاصيل قضية حاج بتو (حيث كان ضباط الأمن على علم بصفقاته غير القانونية مع بلدان الصحراء منذ مدة طويلة) في الصحافة الوطنية بهدف صرف الأنظار عن المحاكمة. لكن في الحقيقة, لم يكن الحاج بتو سوى واحد من مجموعة كبيرة وصلت الى غاية الجنرال العربي بلخير.
وكان من شأن قضية بلوصيف المعاد النظر فيها بكل امتداداتها ان تجر معها كلا من الرئيس الشاذلي بن جديد والعربي بلخير وآخرين عديدين كانوا مذنبين اكثر من بلوصيف نفسه. وان تمت محاكمة بلوصيف بتهمة تهريب مبلغ مالي بسيط نسبيا, بالمقارنة مع المبالغ التي هربها الآخرون فسوف يؤدي ذلك الى محاكمة الشاذلي وخاصة العربي بلخي (الذي كان مدير ديوان الرئيس) بتهمة الخيانة العظمى بناء على طبيعة الحقائق المتصلة بهذه القضية.
بدأت القصة بمشروع اقامة تغطية كل التراب الجزائري عن طريق اجهزة الرادار, تقدم به العربي بلخير للسلطة لحساب الحكومة الفرنسية. لكن رفض الجنرال مصطفى بلوصيف الذي يشغل منصب الامين العام لوزارة الدفاع الوطني المشروع, وكذلك رَفَِِضَه العديد من الضباط العسكريين الكبار بسبب تكلفته الخيالية اذ كانت قيمة المشروع الاجمالية آنذاك تتجاوز الاربع مليارات فرنك فرنسي جديد كانت نتائج هذا المشروع, لو تم انجازه ستكون وخيمة على اقتصاد البلاد كما كان سيضع نظام الدفاع الجوي الجزائري برمته تحت سيطرة فرنسا وهذا هو السبب الذي جعل بلوصيف يرفض تبني المشروع برغم الضغوط التي مارسها عليه العربي بلخير والشاذلي للتوقيع عليه. (وشاء القدر أن يمضي لواء قوات الجيش محمد العماري على مشروع مماثل عام 1995 مع الحكومة الفرنسية بطبيعة الحال وهذه المرة كانت التكلفة اكبر بكثير).
وعقابا بلوصيف على رفضه للمشروع اتهمه الشاذلي رسميا بالفساد وسوء الادارة مستعينا بأدلة قدمها له العربي بلخير كان حصل عليها من اصدقائه الفرنسيين (تفاصيل حساب بنكي في باريس باسم بلوصيف وشرائط مرئية تجلب الشبهات, يشاهد فيها برفقة عميلات في الاستخبارات الفرنسية من اصل لبناني, وكذلك تفاصيل متعلقة لعيادة خاصة شهيرة بمدينة نويي الفرنسية كان يستلم منها ارباحا كبيرة). وامام هذه السياسة المفروضة لم يستطع بلوصيف الدفاع عن نفسه وأرغم على دفع ثمن غلطته من دون احتجاج.
وفي الواقع, فإن الذين اسقطوا بلوصيف هم عملاء استخبارات فرنسيون لان باريس استاءت لتلك المحاكمة التي كانت ستؤول دون شك الى كشف العلاقات الجارية بين العربي بلخير والسلطات الفرنسية عندما كان يقوم بمهام رئيس مكتب الرئيس الشاذلي بن جديد (كانت اتصالات بلخير المباشرة مع فرنسا ومرشده في مجال السياسة الفرنسية في الجزائر تتم عن طريق جاك اتالي, صديق حميم للرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا ميتران).
ولا شك ان بوضياف ارتكب اخطاء, لكن لم يكن له خيار في اغلبها كان شعاره ومبدؤه: الجزائر قبل كل شيء. لكن هذا لم يكن هدف صناع القرار في الجزائر بالتأكيد وكان الشارع الجزائري يطالب بمحاسبة المجرمين وينادي بالانصاف في حق ضحايا احداث اكتوبر 88 وكان بوضياف يدرك ذلك واتضح له ان تحقيق تلك العدالة من اصعب الاهداف التي يمكن نيلها. لكن بوضياف لم يستسلم فقد كلف مقربين منه كانوا يشاطرونه الرأي بمهمة "مستحيلة" تمثلت في وضع خطة لتطهير السلطة من كل الشخصيات المتورطة في الفساد ومحاكمة المذنبين علنا. ومرة اخرى يرجع الفضل الى السيد قاصدي مرباح الذي قدم لبوضياف ملفا مرعبا يتكون من ثلاثمائة صفحة تناولتها نشاطات بعض العناصر في السلطة. وهكذا تمكن بوضياف من اختيار ضابط كبير من ضباط مديرية المخابرات السرية رئيسا لبعثة خاصة (هو من اقارب مرباح وصديق شخصي للجنرال السعيدي فوضيل وواحد من الثوار الاوائل) وهو العقيد مراد المعروف لدى مديرية المخابرات السرية بمعالجة العمليات الاكثر حساسية.
قدم العقيد مراد تقريرا مبدئيا تناول ملخصا للخسائر الناجمة عن الفساد ونفوذ المافيا السياسية والمالية في الجزائر وتكملة لملف المعلومات الذي كان قدمه قاصدي مرباح وكذلك خطة عمل مفصلة اضافة الى الادلة التي جمعها مرباح خلال خدمة التي دامت ثماني عشرة سنة في الحكومة. وبهذا حصل بوضياف على الادلة وكان يعلم علم اليقين انه لا نجاة للجزائر من ازمتها الا اذا اشار باصابع الاتهام لمقترفي الجرائم في الجزائر من اجل استعادة الثقة المفقودة بين الشرعية الجزائرية ودعاتها. لكن يجب ان يتم ذلك قانونيا اي حسب الوسائل التي يخولها له القانون والدستور فكان مصرا على عدم اللجوء الى الوسائل المنحطة.
يذكر ان الاشخاص المتهمين كانوا يملكون حسابات بنكية في الخارج خاصة في سويسرا وفرنسا حيث كانت الاموال تذهب على حلقات يتم فيها تبييض هذه الاموال وتحويلها اساسا الى املاك عقارية. كان المبلغ الاجمالي التقريبي باهظاً جداً (حوالى 65 مليار دولار تبخرت في فترة 12 عاما بما في ذلك القروض البنكية).
وكلف بوضياف العقيد مراد بالتحقيق في تلك التهريبات المالية ومحاولة استرجاع جزء منها على الاقل ولم يتردد الرئيس بوضياف في الاتصال مباشرة بالوزير الاول الفرنسي انذاك بيار بيروغوفوا والطلب منه شخصيا دعمه لالقاء الضوء على نشاطات بعض المسؤولين الجزائريين في فرنسا. وتعهد له بيروغوفوا الذي كان يتمتع في الاوساط السياسية الفرنسية بسمعة جيدة بالنظر في الموضوع.
بعد بضعة ايام عقب قبول خالد نزار بتردد (وزير الدفاع آنذاك) التوقيع على اوامر بمهمة الى الخارج توجه العقيد مراد وثلاثة من مساعديه الى باريس حيث استقبلهم نظراؤهم في قصر ماتينون. كان هدف زيارتهم الحصول على تفاصيل حسابات بنكية لبعض الموظفين السامين الجزائريين العربي بلخير ونور الدين بن قرطبي ومحمد عطايلية والشريف وزاني وخالد نزار ومصطفى بلوصيف وغيرهم.
ولا داعي للذكر ان رجالا ذوي مناصب عالية على كلا جانبي حوض البحر الابيض المتوسط قرعوا اجراس الخطر حينئذ.
ففي الجزائر العاصمة عندما علم العربي بلخير واخرون من الذين تتهمهم اجراءات بوضياف بانطلاق عملية التطهير قرروا اللجوء الى الحل الراديكالي.
لم تسفر سفرية "العقيد مراد" ومساعديه عن نتائج ايجابية بطبيعة الحال لرفض العدالة الفرنسية اصدار امر رفع السرية للكشف عن حسابات بنكية للمتهمين رفضا لا عدول عنه, ولهذا عثر على جثة العقيد مراد بعد اسبوع من عودته من فرنسا اثر اغتياله رميا بالرصاص في عنقه بمنطقة باش جراح. كان ذلك حسب التصريح الرسمي من فعل الارهابيين بطبيعة الحال ومن الضباط الثلاثة الذين رافقوه الى باريس (نقيب وملازمان اولان) لم يبق احد منهم على قيد الحياة: فقد اغتيلوا على ايدي ارهابيين في الاسبوعين التاليين وقد غضب بوضياف لعلمه باغتيال العقيد مراد غضبا شديدا.
ادرك بوضياف ما هو صنف الاشخاص الذين يحاربهم ثم قرر مغادرة منصبه المنحوس والعودة الى بيته بالمغرب من دون ان يبلغ بذلك احدا. كانت تلك هي المرة الاولى التي يتخلى فيها رئيس جزائري عن مهامه في ظلمات الليل.
قبل اغتيال الرئيس بليال قليلة كانت امانة وزارة الدفاع الوطني تعيش حالة غليان, كما تكثفت الاتصالات فيما بين مختلف المسؤولين حيث لم يفترق نزار وتوفيق عن بعضهم البعض. وما زاد النار اشتعالا هو توقيع نزار لاوامر بمهمة للعقيد مراد للتوجه الى باريس. وكانت ضربات بوضياف في وجه المافيا الجزائرية تتزايد, وأن هناك رؤوسا قد اينعت وستقطف لا محالة ان لم يوضع حد للاجراءات التي اتخذها بوضياف.
في اوائل شهر حزيران (يونيو) عام 1992 في اجتماع ليلي للجنرالات ضم خالد نزار وتوفيق والعربي بلخير في منطقة سيدي فرج (مركز تقطنه اسر لعسكريين) طرحت تصفية الرئيس باعتبارها الحل الوحيد لمشكلة بوضياف خصوصا وان هذا الاخير راجع لتوه من المغرب بعد مغادرة منصبه ولم يقبل بمواصلة مهامه كرئيس الا بعد سفر عدد من المسؤولين (بما فيهم الجنرال محمد تواتي) لاقناعه بالعودة لخدمة بلاده.
وقبيل اغتياله باسبوع سرقت كل الملفات التي جمعها بوضياف من مكتب الرئاسة في احدى الليالي. عندئذ ادرك بوضياف ان الاشخاص الذين كان ينوي فصلهم سيفعلون المستحيل للنجاة من العدالة مرة اخرى. وفي اليوم الذي توجه فيه بوضياف الى مدينة عنابة (شرق البلاد) في زيارته الاخيرة اقتحم العربي بلخير بصحبة اخيه عبد القادر مكتب الرئاسة واخذ بحوزته مجموعة وثائق.
كان الخطر محدقا والوقت ضيقا وبات من الضروري بذل كل الجهود لايقاف بوضياف الذي ينوي مفاجأة المعسكر المنافس. وبمساعدة الجنرال العماري (عقيد آنذاك) ونائب مدير المخابرات السرية ورئيس الامن الداخلي وضع توفيق الخطوط العريضة لتصفية الرئيس. ولم يعتمد على السيناريو الاسلامي لاسباب السرية, وبالفعل لن يضمن سرية مطلقة للعملية تكليف عملاء اسلاميين ومن الارجح ان تكون نتائجهم اقل فعالية في وجه عناصر مصالح الامن الرئاسي وفرق التدخل الخاصة. أما الطريقة الوحيدة التي تكون نتائجها مضمونة هي التخطيط من الداخل: بانتقاء قناص يلبي اوامر مسؤوله الخاص (لسبب او لاخر) اذ يمكن الجنرالات القول بعد تنفيذ العملية ان الجاني مختل العقل, وبالتالي يُغلق ملف القضية من دون ان يشكل ذلك خطرا كبيرا ويضمن بالمقابل نجاحا تاما للعملية.
وقد بارك كل من خالد نزار والعربي بلخير سيناريو العملية الذي عرضه عليهم اسماعيل العماري, وكانت فرقة الموت (خلية الشبح التي انشأها بلخير وتوفيق وسيرها اسماعيل تضم عناصر من مصلحة العمليات الخاصة تم انتقاؤهم بسرية تامة) تقوم بالمهمة السهلة التي تتمثل في تصفية كل الشهود والعناصر المزعجة ضمن شبكة بوضياف. لقد وجد اسماعيل لذة شيطانية في تصفية الخصوم وكل الاشخاص الذين لديهم علم بالقضية من دون ان يفلت منهم احد.
لم تعرف تفاصيل عملية اغتيال بوضياف الا بعد تنفيذها, وذلك من خلال اعضاء مصالح الامن القلائل الذين اختلطوا ببومعرافي مبارك خلال الايام القليلة التي تلت المأساة. وكان بومعرافي جد قلق وخائف لكشف سره اللعين لأي كان. فوقوع اختيار اسماعيل العماري على الملازم الثاني مبارك بومعرافي لم يكن من باب الصدفة. فقد كان اسماعيل فد لاحظ في شخصيته برودة الدم إضافة إلى سريته من خلال عمليات سابقة. وكان العقيد اسماعيل الذي شغل منصب رئيس العمليات الخاصة آنذاك مؤهلا بحكم منصبه هذا لمعرفة من هو اهل لهذه المهمة. وفي مركز عنتر للعمليات الخاصة اطلع اسماعيل بومعرافي على التعليمات الاولى للعملية من دون ذكر اسم المستهدف, حاثا اياه على الالتحاق بجماعة الموت لتطهير حزب الخونة الذين ارادوا هدم وخراب البلاد ولا داعي لذكر الوعود المغرية بالترقية ضمن الجيش التي وجدت صدى لها عند بومعرافي. لانه ضروري جدا ان يكون لاي احد يرغب في الارتقاء ضمن الجيش من يدعمه ويسانده في ذلك. وهذا ما كان يصبو اليه بومعرافي. وبعد عدة اجتماعات جمعت بينهما استعد بومعرافي لليوم العظيم. وقد كشف لبعض رفقائه بعد العملية انه لما علم بالشخصية المستهدف تصفيتها لم يكن بوسعه مغادرة مكتب الرائد اسماعيل حيا في حالة ما رفض المضي في تنفيذ العملية.
وطرأ في الاونة الاخيرة عشية الاغتيال مشكل كاد ان يتلف كل التدبير. فالرائد حمو قائد فرق التدخل الخاصة لم يعين الملازم الثاني بومعرافي لارساله الى عنابة لانه كان يحمله مسؤولية قتل صديقه والقائد الاسبق لفرق التدخل الخاصة الرائد عبد الرحمن خلال عملية مهاجمة ارهابيين بمنطقة تيليملي وسط الجزائر العاصمة حيث لقي الرائد عبد الرحمن والملازم الثاني طارق من فرق التدخل الخاصة مصرعهما في عين المكان اثر محاولتهم اقتحام مبنى سكني, وكان من المفروض ان يقوم بتغطية حمايتهما بومعرافي لكنه اخفق في ذلك, ونزلت على الضابطين رشقة من ضربات الكلاشنكوف لم تفدهم حتى الصدريات الوقائية المضادة للرصاص التي كانا يرتديانها. وعندما علم العقيد اسماعيل بالعناصر التي قرر حمو ارسالها الى عنابة اتصل به وامره باصدار امر بمهمة فردية لبومعرافي للانضمام الى بعثة المكلفين بامن الرئيس هناك فابلغه حمو بتحفظاته فيما يخص كفاءة هذا العنصر, لكنه رضخ في نهاية المطاف امام اصرار مسؤوله.
وتوجهت فرق التدخل الخاصة التي يتمثل واجبها في مساعدة مصالح الامن الرئاسي الى عنابة برا عشية زيارة الرئيس للتأكد من اجراءات الامن هناك. ويوم وصول الرئيس الى عنابة تم دمج عناصر فرق التدخل الخاصة بعناصر مصالح الامن الرئاسي, يعني انه لم تكن اي تعقيدات بخصوص المساحات التي يجب على كل من العناصر المصلحتين امنها. من الناحية المهنية كان السبب في ذلك جد بسيط: عناصر كلتا المصلحتين مدربون تدريبا جيدا خاصة منهم عناصر فرق التدخل الخاصة, فكانوا يعرفون بعضهم البعض جيدا وينتقلون من مصلحة الى اخرى, حسب اوامر مسؤوليهم. وبهذا تكون خلاصة الدمج عدم شك اي من عناصر المصلحة في نزاهة اي عنصر من المصلحة الاخرى في فرق الحماية.
وبوصول الرئيس الى قصر الثقافة التي كان من المقرر ان يدشنها, كان بعض عناصر فرق التدخل الخاصة وراء ستار القاعة وجزء منهم في خارجها لضمان امن جبهة القاعة الخلفية والمطلة على حي سكني على مقربة من قصر الثقافة. كان بومعرافي يرتدي بدلة مثل بدلات فرق التدخل الخاصة التي كانوا قد حصلوا عليها منذ فترة قصيرة (بدلة مؤثرة زرقاء قاتمة). وقبل وصول الرئيس توجه بومعرافي الى فناء قصر الثقافة الخلفي لكنه بقي يدخل ويخرج من القاعة حيث كان الطقس جميلا في تلك الصبيحة من ذلك اليوم من اواخر شهر يونيو (جوان) 1992
كانت الامور تجري وفقا لما خطط لها, وكان الرئيس يلقي خطابا مهما يهدف الى تعبئة الجماهير في الشرق الجزائري وترقية حركته التي تبنت شعار (الجزائر قبل كل شيء). وكان ذلك المشهد منقولا على الهواء مباشرة بطبيعة الحال, الى جميع انحاء الوطن. ووراء الستار كانت عناصر حماية الرئيس وعناصر فرق التدخل الخاصة يتحدثون بصوت منخفض في الوقت الذي كان فيه قائد مصالح الامن الرئاسي الرائد هجرس يتحدث متجرعا سجارته مع الرائد حمو والنقيب زايدي, (نائب مدير فرق التدخل الخاصة). والنقيب صادق مسؤول تكوين فرق التدخل الخاصة والملازم تركي رئيس بعثة فرق التدخل الخاصة. وامام المدخل الخلفي كان يوجد الملازم ياسين المعاون الاول لبعثة فرق التدخل الخاصة. وفي الفناء الخلفي كان متواجدا الملازم الثاني مبارك بومعرافي مكلف الامن.
في لحظة كان فيها اهتمام الجمهور منصبا على خطاب القائد الثوري محمد بوضياف سمع صوت انفجار بسيط اول في القاعة سبقه صوت دحرجة, حيث رمى بومعرافي قنبلة يدوية مفتوحة تدحرجت من تحت الستار, ثم برز من وراء الستار في الوقت نفسه ليطلق رشقة طلقات لالهاء عناصر مصالح الحماية, فظن هؤلاء انه هجوم من الخارج لما شاهدوا بومعرافي يضرب بالنار, غير ان هذا الاخير نصب رشاشة (من نوع باريتا 9 مليمتر ومن طراز بارابيلوم اي سلاح جد خطير) في اتجاه رأس بوضياف مرسلا رشقة طلقات اخرى طويلة. وفجأة ساد جو من الفزع والرعب وبدأ عناصر الامن الرئاسي يطلقون النار صوب الستار مما اسفر عن جرحى في عداد فرقة الحماية نفسها. والصورة الوحيدة التي بقيت في اذهان الجميع هي مشاهدة بومعرافي وهو يفر من الباب الخلفي حيث كان الملازم ياسين موجودا دون ان يعلم ما في الامر.
هكذا شاهد الشعب الجزائري احداث مأساة اغتيال رئيسهم مباشرة على الهواء. وقد كان مؤلما للغاية ان ذلك يحدث في الجزائر. أما بومعرافي فببلوغه الفناء الخلفي تسلق جدارا يبلغ طوله حوالى مترين بسرعة فائقة, ولم يشاهد هذا اللقطة سوى بضعة من رجال الشرطة والمارة كانوا على مقربة من مكان الحادث.
توجه بومعرافي نحو اقرب مبنى سكني, وفي الطابق الارضي, طرق على باب اول شقة وجدها. حيث فتحت له امرأة الباب عندما شاهدت البدلة الخاصة والسلاح في يده معتقدة انه من رجال الشرطة. لم يطلب منها بومعرافي سوى الاتصال بالشرطة وابلاغهم ان قاتل الرئيس بوضياف يريد ان يسلم نفسه.
وصلت الشرطة بسرعة الى عين المكان فيما ابلغ مسؤول امن الولاية (عنابة) الضباط المسؤولين عن فرق التدخل الخاصة وكذلك مصالح الامن الرئاسي باعتقال بومعرافي الذي سلم نفسه دون مقاومة.
وفي نفس الوقت وفي اجراء غامض نقل الرئيس على متن سيارة اسعاف تفتقر الى |أدنى الاجهزة الضرورية ودون طبيب الى مستشفى لم يعثر عليه. لكن الرئيس الذي اصيب بجروح بالغة, توفي على الفور: حيث اصيب بنزيف حاد من جراء وابل الرصاص الذي أصابه.
وفي الجزائر العاصمة, تابع العقيد اسماعيل مجرى العملية مباشرة على التلفزة ومنذ اللحظات الاولى للاغتيال. اتصل اسماعيل بالمجموعة الوزارية للربط الجوي (GLAM) لتجهيز طائرة له, ثم اتصل بمحمد واضح (مسؤول الامن الوطني) ليطلب منه الالتحاق به, اضافة الى فرقة من مركز (عنتر) للعمليات الخاصة.
وعمَّ آنذاك انهيار معنويات مسؤولي فرق الحماية الرئاسية (فرق التدخل الخاصة ومصالح الامن الرئاسي) وغمرهم شعور مقلق, لكن باعلان وفاة الرئيس, اصيب الكثيرون بصدمة عنيفة. فلم يستطيعوا فهم كيف او لماذا حدث هذا.
وفي نفس القاعة التي جرى فيها الاغتيال, اجتمعت الفرق التي التحق بها العقيد اسماعيل ومحمد واضح وعدد من الوجوه المعروفة لاحقا, ثم تحادث العقيد اسماعيل مع ضباط من فرق التدخل الخاصة ومصالح الامن الرئاسي, وتوجه بعدها نحو عناصر الفرقتين لمعرفة اخبارهم وطمأنهم بهذه الكلمات: لا تقلقوا, على كل الاحوال لم يكن بوسعكم فعل اي شيء امام هذا المجنون, كما ان اغتيال رئيس حصل حتى للامريكان<. ثم امرهم بالعودة الى الجزائر العاصمة. وانتقل بعدها اسماعيل برفقة هجرس وحمو و واضح الى الامن الولائي (لمدينة عنابة), حيث يحتجز بومعرافي. وبمجرد أن شاهد هذا الاخير العقيد اسماعيل العماري قادما, قفز من كرسيه وراح يصعق في وجهه: >أتيت يا ملعون, هل انت سعيد الآن<؟
كان الجو السائد معتماً ثم امر اسماعيل العناصر المرافقة له بتحويله الى الطائرة. وفي الوقت نفسه, نقل الرئيس الى مستشفى عين النعجة (HCA) بالجزائر العاصمة حيث اعلن الطبيب العقيد بريكسي مسؤول مصلحة الطب الشرعي من خلال تقريره الرسمي الخاص وفاة الرئيس.
وفي نفس الوقت تقريبا, رافق العقيد اسماعيل بومعرافي الى قسم الاستعجالات بالمستشفى العسكري, حيث فحص الدكتور كوتوشكالي رئيس قسم الامراض العقلية بومعرافي ثم اعطاه حقنة مهدئات. لكن بومعرافي الذي قاوم ذلك انطلق يصرخ بأعلى صوته: انتم تريدون قتلي, تريدون اسكاتي... فيما نزل على العقيد اسماعيل بالشتائم. وعندما بدأ بومعرافي يفقد وعيه بفعل التنويم, نقل الى قيادة الاركان ليمضي اولى لياليه في السجن.
المستشفى العسكري
أنشأ المجلس الاعلى للدولة لجنة تحقيق وطنية يوم 1992/07/04 ضمت شخصيات انتقاها الجنرالات المعنيون. وتشكلت هذه اللجنة من بلحوسين مبروك واحمد بوشعيب ومحمد فرحات ويوسف فتح الله وكمال رزاق بارة وعلال الثعالبي.
وفي اول اجتماع عقدته هذه اللجنة عين احمد بوشعيب وهو صديق حميم لبوضياف وأحد اعضاء مجموعة تدعى بمجموعة الاثنى والعشرين الذين فجروا ثورة 1954 رئيسا للجنة وكمال رزاق بارة مقررا لها.
لم يكن لهذه اللجنة اي سلطة لكن بحكم الشفافية >الخيالية< والنزاهة في التحقيق, انتهى عملها بعد عدة اجتماعات مع مختلف المشاركين في اغتيال الرئيس بوضياف, بتقديم تقرير للمجلس الاعلى للدولة, ولم يكن لهذا التقرير اي اهمية بناء على انه لم يشكل تحقيقا قضائيا ولا رأي خبراء (بحكم عدم اهلية هؤلاء الاعضاء) حول اغتيال الرئيس.
وكان الهدف الوحيد وراء تأسيس هذه اللجنة, الصاق تهمة تدبير الاغتيال بمن ارادهم مقترفوا الجريمة الحقيقيون. ولعب عامل الوقت دورا كبيرا لصالح المتعاونين على الجريمة. كما أن من أهداف تنصيب هذه اللجنة هو تهدئة العقول المصدومة من جراء هذه التصفية المباشرة. ومنذ الساعات الاولى مارس كل من اسماعيل العماري والعربي بلخير ضغوطا على اللجنة لتعيين رزاق بارة الذي كان عميلاً وفياً في خدمة ادارة المخابرات السرية, مقررا للجنة. وعلى هذا الاساس تمت مراقبة عمل اللجنة عن بعد منذ البداية بدفعها الى التركيز على بعض النقاط دون غيرها, على سبيل المثال: الرسالة المزورة التي وجدت بحوزة بومعرافي وعلاقته بالتيار الاسلامي وتحميل عناصر فرق التدخل الخاصة التي ارسلها توفيق لدعم عناصر الامن الرئاسي. وتجدر الاشارة إلى ان عناصر نخبة الحماية الرئاسية ارسلت لضمان الحماية الخاصة للجنرالات القمعيين. لكن اللجنة ابعدت التهمة عن توفيق واسماعيل العماري وكذلك العربي بلخير بدراية منها بالقضية رغم انهم نظريا, هم المسؤولون الاوائل لما حدث للرئيس.
نشبت داخل اللجنة اختلافات عميقة وكثيرة بخصوص تحديد الجناة الحقيقيين. فقد رضخ اعضاء اللجنة كلهم لضغوط ومضايقات الجنرالات, ما عدا يوسف فتح الله الذي رفض التوقيع على التقرير النهائي الى اللحظة الاخيرة, لانه كان يريد ذكر مسؤولية قادة اجهزة الامن وأقل شيء مطالبتهم بالاستقالة من مناصبهم كجزاء على المأساة.
كان كمال رزاق بارة بطبيعة الحال ينقل التفاصيل, كلمة بكلمة, الى رؤسائه في ادارة المخابرات السرية, كما كانت له يد في اغتيال يوسف فتح الله (رئيس اللجنة الجزائرية لحقوق الانسان) في مكتبه الواقع بساحة الامير عبد القادر بالجزائر العاصمة, بعد سنة ونصف السنة من ذلك الوقت, عندما شرع يوسف فتح الله في كتابة تقريره الشخصي حول قضية بوضياف بهدف نشره.
طرح بعد هذه القضية مشكل قضائي, اذ اعلن قاضي محكمة عنابة عدم كفاءة القضاء المدني للتحقيق في هذا الملف الذي كان النظر فيه من مهام القضاء العسكري. لكن المدير المركزي للعدالة العسكرية آنذاك, محمد العالم, بعد أن تسلم اوامر من عند الجنرال خالد نزار صرح في الصحافة ان القضية بطبيعتها مدنية وليست عسكرية. وبعد حوالي شهر من اغتيال الرئيس, قررت غرفة الاتهام بمحكمة عنابة بأن (محكمة عنابة) تتمتع بالصلاحية الاقليمية للنظر في القضية, حسب المادة 40 من قانون العقوبات.
لقد ادرك الجنرالات الذين خططوا لعملية الاغتيال, ضرورة تكفل العدالة المدنية بهذه القضية مهما كلف الامر, لتكون قد لبت مبدأ الشفافية ازاء الشعب الذي شعر ان في الامر مؤامرة من جهتها, وازاء المحاكم الدولية من جهة اخرى. وبدأت آنذاك اصوات تتعالى في الشارع الجزائري متهمة الجنرال العربي بلخير بصفته الجاني الاول, مما دفع هذا الاخير الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية آنذاك, الاعلان في الصحافة الوطنية انه: لا يمكن الصاق التهم بوزارة الداخلية ولا بوزير ما بأنه وراء الاحداث المأساوية التي جرت بعنابة والتي راح ضحيتها الرئيس<. وبذلك انطلق سباق حقيقي مع الزمن في وجه الجزائريين الذين نددوا بمؤامرة المافيا السياسية والمالية ضد رموز الثورة وضد آمال شعب في طريق الضياع بكل بساطة.
وامر وكيل الجمهورية لمنطقة عنابة محمد تيغرامت, المكلف رسميا بالتحقيق في هذه القضية, مواصلة التحقيق من قبل ضباط من رجال الامن القضائي التابعين للدرك الوطني وقرر اعادة اجراء الوقائع في الاسبوع الاول من شهر أوت (اغسطس) 1992, حيث توجهت فرقتا الامن الرئاسي والتدخل الخاصة صبيحة يوم السبت من الاسبوع الاول من شهر أوت (اغسطس), فيما نقل بومعرافي قبل ذلك بايام الى عين المكان جوا, وتمت اعادة الوقائع بحضور ضباط من الدرك الوطني, الى جانب شخصيات اخرى من بينهم قاضي المحكمة. وفوجىء الجميع, عندما امر القاضي - في نهاية الوقائع التي دامت اعادتها اكثر من خمس ساعات-بالقبض على عناصر الفرقتين. كانت المفاجأة كبيرة جدا ورفض عناصر الفرقتين تسليم اسلحتهم لرجال الدرك, إذ وجه عضو من فرقة التدخل الخاصة سلاحه نحو رجال الدرك لما حاولوا نزع السلاح من الرائد حمو, رئيس فرق التدخل الخاصة, الذي اشتد سخطه بعد سماع حكم القاضي.
طالب الرائد هجرس بعدها مباشرة بالاتصال بادارة مديرية المخابرات السرية, حيث نزل عليه الجنرال توفيق بالشتائم وامره بالرضوخ للقانون. لقد كانت تلك اللهجة جديدة لم يعهدها رائد الامن الرئاسي من قبل. وبأمر ملح من طرف الرائدين هجرس وحمو, سلم الضباط وضباط الصف المرافقون للرائدين اسلحتهم لرجال الدرك الذين نقلوهم مغلولي الايدي الى مركز الدرك الوطني, حيث قضوا اكثر من اسبوع وتم الزج بالضباط كلهم في الزنزانة ذاتها. واندلع شجار بين عناصر مديرية المخابرات السرية ورجال الدرك الذين اخذوا بثأرهم من عناصر المخابرات, خاصة بعدما حازوا على دعم الجنرال غزيل رئيس الدرك الوطني بعدما ابعد عن القمة التي كانت تتخذ القرارات.
كان من المفروض أن يُتَهم في قضية القتل ضباط كبار منهم الرائد هجرس (رئيس الامن الرئاسي) والرائد حمو (رئيس فرق التدخل الخاصة) وثلاثة ضباط هم: النقيب زايدي (مساعد رئىس الامن الرئاسي) والملازم تركي (رئيس الفرقة المعينة) والملازم ياسين (مساعد رئيس الفرقة) بالاضافة الى ثمانية عشر ضابط صف, إلى جانب الجاني الرئيسي بومعرافي, زيادة على ادانة مسؤولين آخرين بتهم تستحق عقوبة الاعدام. وفي كواليس وزارة الدفاع, عقب التهديدات التي تفوه بها الجنرال العربي بلخير, اوشك الجنرالان, خالد نزار وتوفيق (محمد مدين) والعقيد اسماعيل العماري على اتخاذ قرار قد تكون نتائجه وخيمة, ومن شائه هز كيان الطبقات العسكرية المختلفة, ومصالح الامن على وجه الخصوص, كانوا سيضحون باعضاء مصالح الامن الذين ارسلوا الى عنابة.
عندما كان الجنرال توفيق يقابل اسر الضباط المعتقلين لمعرفة اخبارهم, كانت إجابته غامضة عن الاسئلة المطروحة عليه, فعلى سبيل المثال, كان يقول لهم: هذا (الاعتقال) يأتي مع طبيعة الشغل, على كل حال سيستمرون في تقاضي مرتباتهم كالعادة. اما التصريح العجيب, في هذا الاطار, فجاء على لسان العقيد اسماعيل الذي قال ساخرا للضباط الذين كانوا قلقين على مصير زملائهم: عليكم بالخيار, اما هم او مسؤوليكم. وطال أمد النظر في القضية في عنابة عمدا, فيما قرر الجنرالات تحويل الملف الى الجزائر العاصمة بهدف تمييعه.
واغضب هذا القرار القاضي المكلف بالقضية بعنابة فقدم استقالته, ولكنه ارغم على العدول عن قراره اتقاء الانتقام منه. ولم يكن امامه اي خيار بديل للنجاة بحياته سوى اصدار تكذيب تقديم استقالته التي اعلن عنها في الصحف والتلفزة في وقت سابق.
وفي الجزائر العاصمة, كلف النائب العام لمحكمة الجزائر العاصمة عبد المالك السايح بالقضية. وكان هذا الاخير احد عناصر المخابرات السابقين تحت التصرف التام لاسماعيل العماري الذي جنده منذ سنين حيث كان يدرس بمعهد القضاة ثم قاضي محكمة امن الدولة بالمدية. كما عين محمد سعادة, وهو قاض من الدرجة الثانية, لكنه معروف بانصافه, لمساعدة السايح في سد فجوة الكفاءة التي تعوز السايح. لقد أنقذ السايح عبد المالك وكمال رزاق بارة حياة ضباطهم الذين طبخوا العملية. وبالتالي نالوا المكافاة.
تم ترحيل المتهمين من الضباط وضباط الصف المعتقلين في عنابة وكذا ملفاتهم الى الجزائر العاصمة. وبوصولهم الى المطار العسكري ببوفاريك, وسط اجراءات امنية مشددة من رجال الدرك الوطني, تم انزالهم من الطائرة التي كانوا يستقلونها مغلولي الايدي والاقدام. وتأثر عمال المطار لحالتهم التي يرثى لها. ثم نقلوا بما فيهم بومعرافي, الى سجن سركاجي >برباروس سابقا<. أما بومعرافي فقد زُج به في زنزانة منفصلة لوحده تحت الملاحظة الدائمة عن طريق كاميرة الفيديو. وشاء القدر ان يلتقي الرائد حمو بعد القادر حشاني احد قادة الجبهة الإسلامية للانقاذ الذي كان قد اعتقله منذ مدة.
ذهب خمسة ضباط (اثنان منهم من الرتب العالية) وثمانية عشر ضابط صف, بما فيهم من قضى ما يزيد عن عشرين سنة خدمة في الجيش, ضحية متطلبات سيناريو الشفافية اعده المذنبون الحقيقيون. فلجأت اسر المتهمين لتوكيل محامين للدفاع عنهم بعد سكوت المسؤولين الذين لم يعودوا يستقبلونهم على الاطلاق, وكذا جو الخيانة الذي شعروا به.
ولما علم قاصدي مرباح عدم استطاعة ضباط الصف توكيل محام للدفاع عنهم, وكّل عنهم محاميه الخاص ومحامي حزبه >مجد<, لكن توفيق لم يستبشر بهذا النبأ, وقرر عندئذ اخفاء شريط الفيديو الذي صور فيها بومعرافي في ظروف جد قاسية لأن هذا الأخير رفض التعاون مع توفيق, وتعقيبه المستمر على ظروف اعتقاله وعلى مخاوفه من تصفيته لاسكاته. إذ لم ينتقل بومعرافي الى قاعة التسجيل الا بعد ما اجبروه على اخذ حقنة مهدئات.
كان المشهد شبيها بالكارثة, لم تكن لاجابات بومعرافي عن الاسئلة الموجهة اليه من طرف ضابط خلف الكاميرا اي معنى على الاطلاق. كانت جل اقواله عبارة عن سب وشتائم في حق المذنبين الحقيقيين وتعليقات حول الوضع في البلاد. وردا على سؤال وجه له حول ما اذا كانت له علاقات باسلاميي الجبهة الإسلامية للانقاذ اجاب: لا يجرأ ذوو اللحيى والجلبات (الثوب الرجالي الطويل) على فعل ما فعلته.
لقد جرى التحقيق في قضية بوضياف بطريقة سيئة جدا, وبذل العميل السايح عبد المالك -الذي نال مكافأة ولائه بتنصيبه قنصلا في تونس- كل جهوده لتبديد حقائق تمثلت في اشارات كانت ستصل إلى حد اتهام الجنرالات المجرمين. ولم يحظ اي من عناصر المخابرات بمثل هذه السلطة وتلك الصلاحيات ابدا, فزيادة عن الحراس الشخصين الذين خصصوا لحمايته من مركز العمليات الخاصة, ومسكن خاص بنادي الصنوبر (المركب السياحي الذي حول الى حي سكني للعسكريين) كان السايح احد المدنيين القلائل الذين حازوا على سيارة مدرعة كلفت المشاركين في الجريمة اموالا باهظة. وعندما تقدم احد اقارب الضباط المتورطين بشكوى موضحا فيها تجاوزات السياح, الى صديقه وزير العدل آنذاك, الماحي الباهي, قدم له هذا الاخير ضمانات شخصية لتحويل الملف الى قاض آخر. فوفى الماحي الباهي بوعده, حيث استدعى السايح الى مكتبه, ولما اخبره وزير العدل بنيته في أخذ الملف منه وانه من المفروض ان يكلف بالقضية اكثر من قاض واحد, نزل السايح على الماحي بالشتم ولم يضيع وقته معه, بل اتجه مباشرة الى ثكنة غرمول حيث تتخذ مديرية مراقبة التجسس مقرا لها وكذلك مكتب العقيد اسماعيل العماري. وضمنت مكالمة واحدة من قبل اسماعيل حل المشكلة. وفي نفس اليوم, اعلن عن استقالة وزير العدل, الذي فوجئ بهذا الاعلان في وسائل الاعلام.
وكان لجنة التحقيق قد وجهت لبومعرافي سؤالا ولم يجد له جوابا: لماذا لم تمكث في مكان الجريمة بعد فعلتك؟ ولم يكن بومعرافي هو الذي وجد ردا لهذا السؤال, بل زميل له من فرق التدخل الخاصة (الرقيب الاول كمال عيدون) الذي كان من الاوائل الملتحقين بفرق التدخل الخاصة, وشارك في بعثة حماية الرئيس الى عنابة. فقد فرّ عيدون من ثكنة فرق التدخل الخاصة في نهاية سنة 1993 لاسباب مبررة مفادها ان اسماعيل العماري كان يريد التخلص منه كما فعل قبل بضعة اشهر, اذ تخلص من ضابط صف لسبب بسيط هو ان كمال عيدون لم يقم بالمهمة التي كلفه بها العماري شخصيا قبل اسبوع من حدوث المأساة. فقد قال له: >تبعا للشكوك التي تخيم على ولاء بومعرافي, افوض لك الصلاحية المطلقة لتصفية بومعرافي لادنى خطأ قد يرتكبه.
لم يستدرك كمال عيدون اسباب شعوره بالقلق بخصوص اوامر اسماعيل الا بعد اغتيال بوضياف. لكن الاخطر من ذلك, انه لم يلب اوامر اسماعيل. ومن اجل ضمان تنفيذ تصفية بومعرافي, امر اسماعيل ضابط صف آخر بقتل بومعرافي, الا ان هذا العنصر, (اصله من الجزائر العاصمة) كشف سره لاخيه بعد ايام قليلة من المأساة قائلا له: الان عرفت لماذا طلب مني ذلك الذئب العجوز (تلك هي الصفة التي ينعت بها اسماعيل ضمن مصلحة الامن) تصفية بومعرافي في عنابة.
ولذلك السبب اعتقل هذا الضابط (الرائد فريد) قائد مركز >عنتر< في ذلك الوقت, وتعرض للتعذيب بتهمة علاقة >خيالية< بمجموعة ارهابية. كما واجه اخوه نفس المصير في وقت لاحق, لكن لم تكن لذلك اي فائدة لان السر كان قد تسرب.
ولهذا فر كمال عيدون بعدما اطلع اقرباءه على التعليمات التي اعطيت له, لكنه رفض قتل زميل له. ولم يدم فراره طويلا لان اسماعيل عبأ كل القوى الخاصة للبحث عن هذا الاختصاصي في المتفجرات الذي تمرد على الجيش. واغتالته عناصر فرق التدخل الخاصة التابعة للامن الوطني, فيما اعيد مسدسه مملوءا لمصلحة فرق التدخل الخاصة. وكان بومعرافي على حق في تحرزه من اسماعيل. وبناء على ذلك, فضل تسليم نفسه لشرطة عنابة عوض زملائه.
كانت حصيلة قضية بوضياف البشرية كبيرة جدا. فقد قتل حوالي عشرين شخصا بأوامر صدرت اما من اسماعيل او توفيق حتى لا ينكشف السر الكبير, من دون نسيان اغتيال قاصدي مرباح الذي قرر نشر اسباب اغتيال الرئيس في الصحف. وحتى زروال, الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع حينئذ, لم ينجح في تهدئة قاصدي مرباح واقناعه بارجاع ملفات خطيرة كانت بحوزته قبل اسبوعين من اغتياله. وكان ضابط مكتب الامن بالسفارة الجزائرية لدى سويسرا الرائد سمير, هو الذي استرجع الملفات المعنية التي سلمها احد اقارب المرحوم مرباح الى مديرية المخابرات السرية.
ويجدر بالذكر هنا ايضا المذبحة التي جرت بسجن سركاجي, والتي راح ضحيتها حوالي مائتي شخص في آخر محاولة للقضاء على آخر الادلة (بومعرافي) على التورط الواضح لنزار وبلخير وتوفيق واسماعيل في جريمة قتل أحد رموز الثورة الجزائرية.
ولازال مبارك بومعرافي في السجن العسكري بالبليدة حيث حكم عليه بالاعدام الذي علق تنفيذه في الوقت الحاضر.
نتقدم بعزائنا لأسر كل ضحايا هذه المأساة التي تبقى أحلك مأساة عرفها تاريخ مصالح الامن الجزائري, في حين ما يزال مقترفو جريمة اغتيال بوضياف وهم: خالد نزار والعربي بلخير ومحمد مدين (توفيق) واسماعيل العماري ومحمد العماري مستمرين في إبادة الشعب الجزائري