يستطيع المُتأمِّل في التاريخ والواقع أن يجد علامات مُتعدِّدة لقياس مدى تَحضُّر الأمم والشعوب ورُقيِّها. ومن هذه العلامات مواقف الزعماء تجاه شعوبهم، ومواقف هذه الشعوب من زعمائها.
وتختلف طريقة وصول الحكام إلى سُدَّة الحكم من أُمَّة إلى أُمَّة ومن شعب إلى آخر. وبمقدار شرعية هذه الطريقة تسير العلاقة بين الحاكم والمحكوم، سِلباً وإيجابياً، في أغلب الأحيان. -وإن كان محسوباً بين طلاب التاريخ- أن ينظر إلى الواقع الذي عاصر أحداثه، وامتدّ به إلى أكثر من نصف قرن، مُدركاً إلى حدٍ ما بعض ما يسمعه أو يراه.
في العالم الغربي المتقدم في تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.. بين الشعوب وزعمائها.. وصلت إلى سُدّة الحكم زعامات مدنية. وما ندر من وصول زعامات خلفياتها عسكرية وصلت إلى تلك السُدَّة وفق انتخابات حُرَّة نزيهة، تماماً كما وصلت إليها الزعامات المدنية. ومن تلك الزعامات ذات الخلفية العسكرية الرئيس الأمريكي أيزنهاور. وفي بعض دول الشرق، مثل الهند -وهي أكبر دولة في العالم تمارس فيها الديمقراطية وفق النظام الغربي- وصلت إلى الحكم زعامات مدنية، فسارت سنوات حكمها مثلما سارت سنوات الزعامات المدنية في الغرب. والطابع العام في تلك البلدان أن لا يقوم فيها دكتاتور يجثم على صدر شعبه حتى يزاح بالقوة أو يموت.
أمر بعض رؤساء أمتنا، وبخاصة العسكريون منهم، أمر غريب. وليس الحديث، هنا، عما إذا كانت طريقة وصولهم إلى الحكم شرعية أو غير شرعية.. عنيفة دموية أو انقلاباً لم تُرَق به دماء. لكن المهم كيف ساروا؟ بعض هؤلاء -إن لم يكن أكثرهم:
أتى بالمُنَى الخضراء عند مجيئه
وعُوداً ولم يصدق بما كان قد مَنَّى
واللافت للنظر أن هؤلاء يبدون وكأنهم فهموا قول الشاعر: وعُوداً ولم يصدق بما كان قد مَنَّى
[center]ناموا ولا تستيقظوا
ما فاز إلا النُّوَم
على أنه حَثٌّ لهم على عدم الاستيقاظ من السبات العميق، مع أن مراد ذلك الشاعر -في ضوء سياق القصيدة التي ورد فيها وأجوائها- هو حَثُّ الشعب على النهوض إلى العمل والحركة. سبات هؤلاء الرؤساء يكاد يكون موتاً في عمقه.
ولعلَّ من أوضح الأدلَّة على ذلك أن الرئيس التونسي، زين العابدين بن علي، أمضى ثلاثة وعشرين عاماً في الرئاسة قبل أن يخرج مستيقظاً من سباته العميق إلى شعبه مردِّداً عبارته المضحكة المبكية: «فهمتكم الآن».
يكاد يكون من المسلَّم بصحته ذلك المثل الشعبي القائل: «إذا طاح البعير كثرت سكاكينه». على أن ما ظهر حتى الآن من علامات ظلم عهد الرئيس التونسي وفساده كافٍ للحكم على ذلك العهد من حيث الظلم والفساد. ويبدو أن سبات الرئيس المصري لم يكن بعيداً في عمقه عن سبات الرئيس التونسي، الذي ولَّى وجهه شطر جدة بعد أن سُدَّت أمامه منافذ الجهات التي كان يفضل التوجه إليها. لقد أمضى الرئيس المصري ثلاثين عاماً في رئاسته لمصر، العظيمة بتاريخها وحضارتها وخيرات أرضها الحالية لو أديرت إدارة مخلصة صحيحة.
وهو شبيه برئيس إندونيسيا، سوهارتو، الذي أطاح به شعبه، من حيث الخلفية العسكرية ومدة الحكم. ها هو ذا يُسلِّم بصحة مطالب الذين قاموا بالهَبَّة الشعبية، التي تصدَّرها شباب مصر من مختلف الفئات والتوجهات الفكرية، وسارع إلى الانضمام إليها مخلصون لم يكن لديهم ما لدى الشباب من إقدام وحيوية وقوة عزيمة، كما قفز إلى صفوفها، أو اندسَّ بينها، انتهازيون ركبوا الموجة لتحقيق مصالحهم الذاتية. وها هو ذا، أيضاً، يعد بأن تلبَّى تلك المطالب المشروعة. وكم سمعت أُمَّتنا وعود زعماء لم تر منها إلا ما رأى من سمع مواعيد عرقوب في سالف الأزمان. لقد أمضى الرئيس المصري ثلاثين عاماً غارقاً في عميق سبات حال دون إدراكه لضرورة تعيين نائب له، كما حال دون إدراكه لضرورة القيام بتحقيق المطالب التي جعلته الهَبَّة الشعبية يُسلِّم بصحتها، وجعلته يقيل وزارته، ويعلن عدم نيته بترشيح نفسه للرئاسة من جديد، بل وعدم النيَّة في ترشيح أحد من أسرته إليها. ويُوجّه بمنع عدد من الوزراء والمتنفذين النهَّابين من السفر إلى خارج مصر.
وردود الفعل لما حدث في الكنانة من هَبَّة شعبية، وتَطوُّر مجرياتها حتى الآن، متعددة ومختلفة. على أن أشدَّ من انزعجوا لقيام تلك الهَبَّة زعماء الكيان الصهيوني. وقد قال أحدهم، وهو مجرم الحرب أليعازر: «الرئيس مبارك صديق طيّب، وذهابه خسارة فادحة لنا». ومن الجدير بالذكر أن هذا المجرم هو الذي أمر أعداداً من الجنود المصريين استسلموا لكتيبته، عام 1967م، أن يَتمدَّدوا على الأرض، ثم أمر أن تمشي المنجزرات على أجسادهم حتى مَزَّقتها، مرتكباً بذلك جريمة حرب من أبشع الجرائم. والمؤلم -بعد اتِّفاقية كامب ديفيد- أنه أصبح إذا قدم إلى مصر قوبل بالحفاوة والترحاب.
ومن ردود الفعل لِهَبَّة الشعب في مصر أن الرئيس اليمني أعلن، بحكمة يمنية متوارثة، أنه لن يترشح للرئاسة من جديد، وأنه لا توريث لابنه بشأنها، كما أعلن أنه سيلغي ما كان مقترحاً من مواد تتيح له التمديد في الحكم.
وفي ختام هذه المقالة يود كاتبها أن يقول: السعيد من راقب الله في أقواله وأعماله، وانتبه إلى الاعتناء بالمسؤولية التي تَعهَّد برعايتها حق الرعاية. و»السعيد من اتَّعظ بغيره»، كما يقول المثل العربي المشهور. حَقَّق الله لأُمَّتنا ما تصبو إليه من رُقيٍّ وتَقدُّم، وهداها سواء السبيل.