شيء من شعرية الغياب
عندما
تغيب لفترة من الزمن فأنت لا تعلن القطيعة؛ فالغياب صيغة من صيغ الوجود،
فقد تحتاج أحياناً للخلوة الذهنية؛ لتعطي لفكرك فرصة استعادة نشاطه، أو
تسعى في عزلتك لغربلة أوراقك القديمة، والبحث في ثناياها عن كوة ضوء تعيدك
من غيابك، وتثنيك عن قرار العزلة الطويلة التي اخترتها بإرادتك؛ لأسباب ذات
قيمة تستحق شجاعة القرار في وقت أصبح الصدق فيه يودي بصاحبه إلى درب
المخاطر، وكأنه عبر طريقاً مليئاَ بخفافيش تجهل مكان خروجها، ولا تستطيع
التنبؤ بحجم أعدادها، وسلاحك لا يجدي نفعا معها، وكلما ازداد وهج سلاحك
تكاثرت حولك، فإذا شعرت بالاختناق وازدادت حاجتك لتنفس هواء نقي في بيئة
صحية، فعليك بالغياب الذي يمنحك صفاء النفس وهدوءها ليعيد إليك ذاتك
الحقيقية قبل أن ينجح هؤلاء في تلوينها بالسواد كما ملئت نفوسهم وعقولهم
معا.
في الغياب تتسع خارطة التأمل، وتضيق مساحات الحديث، فيمنحك
بعداً شفافاً عن كل ما يجري حولك، فتتابع وتتأمل بصمت، ثم تختزن ذاكرتك ما
وصلت إليه من نتائج، قد تبتسم لبعضها، وتحزن كثيراً على بعضها الآخر.
في
الغياب تقرأ المشهد الثقافي المحلي والعربي -كلاهما وجهان لعملة واحدة-
وتسأل نفسك كثيراً: هل يستحق عناء التأمل في أحداثه، أم أنك تتابعه فقط
لأنك تشفق عليه مما فعله به أبناؤه بالتبني؟ وأثناء بحثك عن الإجابة تكتشف
ما بين السطور، ثم ترسم في نهايتها علامات استفهام وأحيانا كثيرة علامات
تعجب، وتتردد أحيانا أخرى في بدء سطر جديد؛ خشية أن تصدمك علامات أخرى تشبه
ما قبلها وتختلف لاحقا مع أفق توقعاتك.
في الغياب وحده تأتيك طوعاً
فرصة مراجعة المنجز الثقافي، وستذهلك حتماً النتيجة التي تؤكد لك أن الزمن
قد توقف بنا على أعتاب ماض نفاخر به، ولم يتغير شيء سوى أننا لم نعد
قادرين على النقد والمواجهة، أو البناء والتجدد، فأنّى ذهبت لن تجد إلا
بقايا أصوات قد بحت من هتاف كاذب، أو أيد قد تورمت من تصفيق منافق، وبين
هذا وذاك ذوات متضخمة عجزت عن سماع الحقيقة حتى أصابها الصمم، وصمتت عن
الجهر بالحق حتى شل لسانها، وصدقت وصف الله فيهم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ
فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}.
للغياب لذة لن يشعر بها إلا من ضاق
بالنفاق، ومن جرّب صداقة المتلونين حتى كشفت له الأيام أنّ «خير الأصدقاء
من لا يتلوّن إذا تغير الآخرون»، ومن كتب بقلم صدق يريد به منفعة فكانت
مكافأة صدقه كسر قلمه، ولم ينفعه حينها وعد وزير أو مظلة وزارة، لذا يا
صديقي الصدوق لذْ بالغياب، فهو أقوى معاني الحضور، وصن قلمك عندما تعلو
أصوات المنافقين، عملا بحكمة أجدادنا المخلصين «لا تطعم طعامك من لا
يشتهيه[/size] »