كان يكفي أن يخطب الرئيس الأمريكي
أوباما لتتوقف كل الفضائيات العربية عن بث برامجها وتُولّي وجهها وقلبها
وعقلها شطر البيت الأبيض "الحرام"، فالرجل خصّ العرب بخطابه وهم خصّوه
بالتحليل وقراءة ما بين السطور، رغم أن رئيس الولايات المتحدة على مر
الأزمان لم يتعود على دس الرسائل ما بين السطور بصفته الآمر الناهي الذي
تعوّد أن يقول كن، وتعوّد العالم أن "يكون" قبل وأثناء وبعد "كن"..
- الصحف
العربية الصادرة نهار أمس واليوم مازالت تلوك خطاب أوباما، والزعماء العرب
مازالوا يقفون على "ميزانه" بحثا عن وزنهم الحقيقي مع كلام الرئيس
الأمريكي في بلد تلوّنت فيه بشرة الرؤساء وبقي لوننا معهم واحد وهو سواد
الطلعة والطالع، وانكشفت حقيقة الأمريكان الذين يسمّنون الحاكم العربي ثم
يعافونه بمجرد أن تصله سهام الثورة، ويأبون إلا أن يجعلوا من الرئيس
الأمريكي فرعون عصره، ويتوهمون أنه يقول لهم "ما أريكم إلا ما أرى وما
أهديكم إلا سبيل الرشاد" فيسيرون على "هديه" وتصبح كل الطرق التي يأمرهم
بها "سبيل الرشاد"، ويتوهّمون أنه يقول لهم "أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار
تجري من تحتي أفلا تبصرون"، فيعترفون له بملك العراق والشام والخليج
والمغرب العربي والساحل الإفريقي، وليس بملك مصر فقط، ويعترفون له بملك
الأمطار التي تتهاطل عليهم وليس فقط بملك الأنهار التي تجري في النيل وفي
دجلة وفي الفرات. - ليس
خطاب الرئيس الأمريكي الأخير ما يستحق التحليل والقراءة السريعة
والمتأنية، لأن التاريخ علمنا أن أمريكا تفعل قبل أن تقول وفي الغالب تفعل
دون أن تقول، وإذا قالت فلإسرائيل وليس لغيرها، وإنما الذي يستحق التحليل
هو ردود الأفعال التي اندلعت من الخليج إلى المحيط، فالكل يبحث عن اسمه في
زحمة كلام الرئيس الأمريكي، والكل في وادي الخطاب يهيم بين متشبث بقشة كلمة
ساقطة أو مستسلم لغرق جرفه لعاب الرجل الأمريكي الأول، وفي كل الأحوال فإن
الطوفان لم يبدأ بكلام الرئيس، وإنما بأفعال أمريكا الواضحة جدا، وبردود
فعل الحكام والشعوب العربية الضبابية جدا.. - أوباما
قال أن زعماء عرب سيلتحقون بزين العابدين بن علي وبحسني مبارك قريبا، وهو
الرئيس الذي جالسهما ومنحهما العصمة كلها في كل لقاءاته بهما، أوباما قال
أن القذافي سيرحل قصُر الأمد أم طال، وهو الذي بارك في أول أسبوع من حكمه
رفع العقوبات عن النظام الليبي، أوباما قال أن على بشار الأسد أن يتنحى إذا
لم يغيّر سياسته، وهو الذي قال في أول خطاب له أنه جاء ليفتح صفحة جديدة
مع النظام السوري، أوباما قال أن على عبد الله صالح أن ينقل السلطة لغيره
فورا، وهو الذي سبق له أن أرسل تهنئة ومعونات مادية للنظام اليمني، وقال
أنه شريك وحليف لواشنطن في حربها على الإرهاب، مما يعني أن خطاب الرئيس
الأمريكي كان مجرد طلاسم وأضغاث أحلام في عالم يسير بسرعة فائقة، وأمريكا
صراحة فقدت فيه المقود والمكابح، ورئيسها ما عاد فرعون، بل أشبه بمومياء
محنطة، ونحن من نتصور أنه يقول كما قال فرعون الزمن الغابر "أنا ربكم
الأعلى".