3 مشترك
┬╦╬ روآية مذبحة البرلمان والاستيلاء على القلعة ! ╬╦┬
منتديات تبسة- عضو متميز
- تاريخ الميلاد : 21/02/1990
الدولة : الجزائر
الولاية : تبسة
المزاج : اياحزن ابتعدعنــــــــــي ودع جرحي يزل همـــــــــي واني بك يا حزنـــــــــي غيــر العذاب لااجنــــــــــــي .................
عدد الرسائل : 5081
عدد النقاط : 13164
نقاط تقيم الاعضاء : 249
العمر : 34
الوظيفة : طالب
تاريخ التسجيل : 09/09/2007
بطاقة الشخصية
حقل رمي النرد:
(1/1)
رشة ورد- العضوة المميزة
- تاريخ الميلاد : 11/07/1993
الدولة : اسكــــــــــــــــ الجزائــــــر ــــــــــــــــــــن وفلسطـــــــ تسكنني ـــــــــين
المزاج : AM FINE BECAUSE THERE IS NO ONE CAN CHANG MY FINE DAYS
عدد الرسائل : 3693
عدد النقاط : 14589
نقاط تقيم الاعضاء : 413
العمر : 31
الوظيفة : وراء القراية
تعاليق : One Two Three Viva L'algerie
18 - نوفمبر - 2009
تاريخ لن ينساه الشعب الجزائري
*********************
صوني عفافَك بالحجابِ حقيقة *** واستغفري عما مضى وتوسّلِ
ولباسُ تقوى الله أغلى ثمناً *** من كلّ أنواع الجواهر والحُلي
***************
أنا لستُ وحدي في قرار تحـجّبــي *** خلـفـي كثــيـرٌ يـقتـفـيـنَ مَـتــابــي
فمعي النساءُ السائراتُ على الهدى *** ومعي الحيـاءُ وفطرتـي وكتـابــي
سأظلُّ أرقــى للسمـــاوات الـعُـــلا *** وأظلُّ أحيا في هــدى المـحــرابِ
تاريخ التسجيل : 13/05/2010
بطاقة الشخصية
حقل رمي النرد:
(1/1)
جزااااك الله خيرا.. على هذا المجهود الرائــع..
بــارك الله فيــك على الموضـــوع ..
الى الأمـــام..
لاتبـخل عليــنا بجـــديــدك..
و تقـبل مروريـ..
تحياتي..
بــارك الله فيــك على الموضـــوع ..
الى الأمـــام..
لاتبـخل عليــنا بجـــديــدك..
و تقـبل مروريـ..
تحياتي..
نجمة الشرق- وسام حواء
- تاريخ الميلاد : 10/08/1991
الدولة : algeria
الولاية : tebessa
المزاج : good
عدد الرسائل : 276
عدد النقاط : 6089
نقاط تقيم الاعضاء : 32
العمر : 33
الوظيفة : طالبة
تاريخ التسجيل : 14/11/2010
بطاقة الشخصية
حقل رمي النرد:
(101/1)
- مساهمة رقم 3
┬╦╬ روآية مذبحة البرلمان والاستيلاء على القلعة ! ╬╦┬
مذبحة البرلمان والاستيلاء على القلعة
استيقظت
صبيحة هذا اليوم على لعلعة الرصاص بعيد صلاة الفجر بقليل. المدينة كلها
متوترة الأعصاب. انتهت الحرب، بعد أن دخل الإنجليز دمشق. الفرنسيون يأبون
أن يسلموا الحكومة الوطنية مقاليد السلطة، كأن الحرب لم تقم. ولم تقطع
الحكومات المنتدبة فرنسا وإنجلترا وعوداً للشعوب المنتدب عليها، بالاستقلال
والحرية وجلاء الجيوش الأجنبية عن أراضيها.
لقد احتل العسكر
السنغاليون مبنى البرلمان وذبحوا من فيه من قوة الدرك الوطنية، ونصبوا
مدافع رشاشة على مفارق الطرق الاستراتيجية، وعلى التلال المحيطة بسهول
المدينة، وأحيائها التي تغلي كالمرجل. والمدفع الرشاش الذي أيقظني كان
قريباً من بيتنا على سفوح قاسيون، لا تفصلنا عنه سوى البساتين الغناء التي
بيننا وبين شوارع المدينة الرئيسية، لقد نصب الفرنسيون هذا المدفع على
مئذنة جامع بعيرة قرب السبع بحرات، لأنها تكشف حولها كل المنطقة لا سيما حي
الأكراد، وحي الصالحية والمهاجرين وأحياء العقيبة والعمارة إلى ناحية
القصاع. وكان المسجد يقع على كتف قشلة عسكرية تكفلت التحصينات التي أقامها
الفرنسيون أن تحميها. وقام هذا المدفع الرشاش على المئذنة يلعلع آن خروج
المصلين من صلاة الصبح، إرهاباً لهم من أن تسول لهم أنفسهم أن يتحرشوا
بالقشلة، أو أن يهاجموها من أطراف البساتين التي كانت تحيط بها من ناحية
الأحياء الغاضبة.
فرنسا تسوق الجنود السنغال السود إلى الخدمة العسكرية هم والمغاربة ليحموا مستعمراتها. بينما هم أنفسهم مستعمرون أيضاً.
لقد
حاربوا في صفوف جيوشها، وشاركوا في تحرير أراضيها من النازية. ولكن فرنسا
تأبى أن تمنحهم حريتهم وحقوقهم كما تأبى علينا أن يكون لنا حكومتنا
الوطنية.
وقد حارب مجندون سوريون في صفوف الحلفاء في طبرق ضد الجيوش النازية.
المدفع الرشاش يحتاج إلى من يلقمه بالذخيرة، وإلى من يتولى إطلاق الرصاص، ولشخص ثالث عليه مسؤولية أن يؤمن صناديق الذخيرة للملقم.
الرصاص
يلعلع بصورة متقطعة، وأصوات انفجارات تنبعث من آن لآخر من قلب المدينة
وأطرافها. ودخان يتصاعد هنا وهناك، يصاحب هذه الانفجارات أو ينبعث من حرائق
متفرقة. من فعل المقاومة التي يضطلع بها سكان المدينة العزل إلا من أسلحة
عتيقة حارب بها أسلافهم في الحرب العالمية الأولى أو في معركة ميسلون.
أخي
الكبير مروان يخدم في قوة الدرك التي تحرس مبنى البرلمان كرمز للحكم
الوطني والسيادة الوطنية، لكن قوى الاحتلال تصب عليه قنابل غضبها فتحرقه
وتدمره وتذبح الحامية السورية من الدرك التي تتولى حراسته عن بكرة أبيها.
بعد
صلاة الصبح جاء إلى موسى وفارس وحميد. لم أكن أستطيع الخروج ووالدتي
مستيقظة في مثل هذا الوقت المبكر سيما أن الأمن مفقود في مثل هذه الظروف
وخروجي إلى المدينة مغامرة لا تؤمن عواقبها. وحين أسمع موسى يصفر لي مقلداً
صوت الشحرور أيقن أن رفيقيّ ينتظراني في الخارج.
كنت قد ارتديت
قمبازي وحملت قبقابي بيدي وانتهزت انشغال والدي بالصلاة وسرقت خطوات قليلة
إلى أن صرت أمام باب الزقاق، فسحبت المزلاج سحباً خفيفاً لا يشعر به من في
الدار. وخرجت إلى موسى وفارس وطلبت منهما أن يخلعا القباقيب، وركضنا حفاة
حتى بلغنا نهاية الحارة فلبسنا القباقيب. واستلمنا طريق عين الكرش بين
البساتين. وفي خلال أقل من عشر دقائق كنا على كتف القشلة العسكرية التي تقع
في نهاية البساتين التي يشقها شارع بغداد إلى الغوطة.
قال موسى
وهو أكبرنا عمراً، لم أجد من مخلفات والدي غير هذا المسدس. لقد مات شهيداً
في ميسلون. وذهبت بندقيته العثملية. لم يبقَ غير هذا المسدس علينا أن ننتهز
فرصة ونصعد إلى المئذنة. سأتولى أنا إطلاق النار على طاقم المترليوز
الهوشكيس المدفع الرشاش إنه يرعب المدينة ويمنع المقاومين من المساندة
والقتال.
في المسدس خمس طلقات تكفي للسيطرة على الموقف طاقم
المدفع الرشاش ثلاثة أو أربعة وأنا كفيل بهم جميعاً. ليس من العدالة أن
يذهب دم والدي هدراً.
فقال فارس وجنود القشلة من يتولى أمرهم إذ
تنبه أحد منهم إلينا، قال موسى: علينا أن ننتبه إلى الحرس فقط والآخرون
يغطون في حلاوة النوم.
تزحف أنت إلى مدخل المئذنة وتقوم أنت بمشاغلتهم بالصعود وتمهدان لي لتنفيذ العملية.
قلت:
المسدس لا يكفي، بيننا وبين مبنى البرلمان أقل من مسيرة خمس دقائق. نذهب
إلى هناك ونستعين بأخي مروان، ليعطينا بندقية تسهل علينا تنفيذ المهمة.
موسى:
يبدو أنك لم تسمع ما حصل ليلة البارحة، لقد ذبح الفرنسيون قوة الدرك عن
بكرة أبيها. وفرصة أخيك في النجاة من هذه المذبحة ضعيفة، وأنا آسف لكي أنعق
بوجهك كغراب البين.
نبقى ثلاثتنا معاً يمكن أن نحقق عملاً إذا ما
بقينا معاً ولو كان سلاحناً محدوداً لا بد. ستعوض ذلك بالحذر والفطنة
وانتهاز الفرصة وصلابة الإرادة. المقاومة ليست إلا عملاً رمزياً يتيح
لروحنا الجماعية أن تبقى واحدة، هذه الروح التي يريد أن يمزقها المحتل
بغطرسته وقوة سلاحه. فيدمر الرموز الوطنية كالبرلمان وينفي رجالات الحكومة
الوطنية ويذبح قوة الدرك، ليقول لنا: أنتم عزل لا حول لكم ولا طول وما من
أمل لمقارعة القوة، العين لا تقاوم المخرز. فما عليكم إلا استسلام
والخنوع.
أملنا في الصعود إلى المئذنة ضعيف، لا بد أن يكون باب
المسجد محروساً، لا سيما المدخل إلى المئذنة، والذهاب إلى مبنى البرلمان
الآن أكثر ضرورة، لا لأن أخي هناك ربما يكون قد ذبح مع المذبوحين، ولنفرض
جدلاً أنه لم ينج أحد من قوة البرلمان فالتسلل إلى داخله أسهل بعد تدميره
وحرقه وربما وقعنا على بعض الأسلحة هناك لنفيد منها في احتلال المئذنة،
وضرب طاقم المدفع الرشاش بأسلحة قادرة وكافية.
ـ أخشى أن ينتشر
ضوء النهار فتفوتنا الفرصة. وتكشفنا أعين الرقابة. وتساءلت: ليس من الصعب
على هؤلاء الجنود أن يحتلوا المئذنة، لكن كيف صلى المؤمنون صلاتهم بدون
آذان؟!
ربما تركوا مئذنة المسجد فهم عزل إلا من الإيمان. فليقيموا
صلاتهم أو فليستمعوا إلى آذان الفجر في الداخل في دفق الدم ونبض القلب.
وليستجيبوا إلى البارئ الأعلى الذي يطل عليهم وعلى المسجد والمئذنة، وما
يحيط بها من مظاهرة الخصب وفصول المقاومة.
لقد عطل الأذان واحتلت المئذنة فهل تعطل الصلاة؟!
الحق
مع موسى أن الدم الذي سفح في ميسلون يصبح طيوراً، أسراب غمام لا تمطر
الأرض إلا إذا استسقى الدم بالدم حتى يقلع الغاوي عن غيه، وترجع الأرض إلى
أصحابها.
المئذنة التي انتصبت تطعن الفضاء باسم الله المغني
والدعوة إليه خمس مرات في اليوم، استبيحت وصارت مربضاً لمدفع رشاش يطلق
خمسمائة طلقة في الدقيقة الواحدة!
ليس للخير قدرة على القتل بهذه
السعة. الحروب كلها كافرة بغايات دنيئة، دماء البشرية تنزف والأمهات يحدبن
على أطفالهن يحلمن برجوع أزواجهن الذين لن يروا وجوههم مرة أخرى.
هذا المدفع الرشاش كافٍ ليقتل المدينة كلها في غضون أيام باسم التقدم ووصاية الشعوب الجارحة على الشعوب الضعيفة.
لكن
هل يخلع عارف أخاه من ذاكرته؟! إنه في مبنى البرلمان وهو على مرمى صوت منه
وفرص نجاح العملية التي يفكر بها موسى معدومة. هل يفكر حقاً موسى باسترجاع
المئذنة وكف يرد الغدر عنها؟ أم يفكر بالثأر لأبيه الذي يعانق بندقيته على
تراب ميسلون في رقدته الأخيرة في باطن الأرض.
إن موسى كأبيه
يحارب ببندقية غير مرئية، وبذخيرة لا يعرفها إلا من ارتبطت أرواحهم بخيوط
ضوئية بكواكب مجهولة جوهرها الإنسان وحب البشر. وإلا كيف يتصدى مسدس صدئ
"أبو طاحونة" بطلقات معدودة عبأها موسى بنفسه تتصدى لمدفع رشاش لا حد
لقدرته على الردع والقتل. أتقاوم العين المخرز؟!
هل يريد موسى الانتقام أم العدل، هل القتل يوقف القتل والقصاص يفتح الطريق إلى الحياة؟
هل
يطالب موسى بأن نقلع عن هذه المجازفة. قد يموتون جميعاً بلحظة والإرادة
ماذا تصنع الإرادة؟ أمام الدبابة والمدفع الرشاش والطيارة؟! وماذا يريد هو،
لماذا نهض من فراشه وحلاوة النوم وانضم إلى موسى؟ هل هو الفضول الذي
أثارته لعلعة الرصاص في الفجر؟! أم أنه قلق على أخيه الذي يحرس البرلمان؟!
لم يجئ ليشترك بهذه العملية الغامضة النتيجة، لم يجيء ليثأر
لشهداء ميسلون، يريد سلامة أخيه من الذبح، ولكن كيف يكون ذلك والمدينة
ترتعد أوصالها من أخبار المذبحة؟!
ربما ضخمت الإشاعات الواقعة،
ربما اخترع موسى هذه الخبرية حتى يعبئه ويحشده للاشتراك معه في تعطيل
المدفع الرشاش الذي عطّل الأذان. إنه يصمم على مفاجأة طاقم من العسكر
المأجورين!!
موسى يهمس: خلنا نتلطا بجدران القشلة، لنصل إلى المسجد ومنه إلى مدخل المئذنة.
ـ والمدفع الرشاش.
ـ المدفع الرشاش لا يطالنا، نحن قريبون من المئذنة ومدى الرمي لهذا السلاح يقصد به المسافات الأفقية الواسعة.
ـ
ليس يعقل أن يعول الحرس فقط على المدفع الرشاش. لديهم مسدسات وبنادق وإذا
رصدونا.. يمكن أن يقضوا علينا قبل أن نصل إلى مدخل المئذنة.
ـ هذا ممكن.
ـ وممكن أيضاً أن يكون هناك جنود آخرون في القشلة تقوم بدوريات مناوبة خوفاً من الطوارئ.
ـ
ممكن أيضاً، لكن لنستطلع الأمر من خلال بعض الطاقات في جدران القشلة، انظر
لا يوجد غير طاقم آخر للمدفع الرشاش يتناوب مع القائمين عليه الآن
لاستمرار وظيفة المدفع الرشاش.
ـ نظرت من الطاقة وتأكدت مما يقول موسى بعد أن استطلع الأمر من طاقة قريبة منه. وأردف موسى:
يبدو
أن غليان المدينة أرهب حامية القشلة فتركها الضباط الفرنسيون لثلة من
الجنود السنغال، ليمت هؤلاء إنهم أعدوا لمثل هذا الغرض، الموت لهم ولضباطهم
الرفاه والراحة.
استغربت الأمر ربما تطرف القشلة عن المراكز العسكرية الأخرى المتجمعة في البرامكة والمزة والقلعة هو السبب.
ألأّن القشلة متطرفة؟! تركوا فيها قليلاً من الجند.. الحرب النفسية هي المقصودة.
أن يكبح المدفع الرشاش روح المقاومة وتخلد الأحياء للسكون. وألا تساورها فكرة الانقضاض على السلطة.
أخذ
موسى يتحسس المسدس بأصابعه برفق، ويدور الطاحونة ويتفقد رصاصاته بتصميم،
وهو يقول: إذا بقيت معنا هنا في هذه العملية.. نذهب معك بعدها إلى
البرلمان، أخشى أن يرصدنا الجند إذا سرنا في الشارع الموصل إلى البرلمان،
والجدران هنا تسترنا عن مجال رؤيتهم. فلا بد لنا من أن ننقض عليهم على حين
غرة وإذا نجحنا تصبح الطريق إلى البرلمان آمنة.
أستطيع أن أتسلل
إلى شارع البرلمان، وأنت وحدك الذي لديه مسدس أما أنا فلا يمكن أن أهاجم
البندقية بخنجر.. وأنا قلق على أخي مروان.. اسمع يا موسى إن خطة الهجوم على
المئذنة والمدفع الرشاش ليست واقعية فلنتجه جميعاً إلى البرلمان متسللين
وليس من فائدة في مواجهة المدفع الرشاش!!
أما فارس فقال لا بد لي
من أن أتوجه إلى القلعة فأبي ما يزال محبوساً فيها وترامت إلى إشاعات أن
الأهالي وبعض عناصر المقاومة يحيطون بالقلعة. قد تحين لي فرصة أساعد فيها
هؤلاء وإعادة حرية أبي. آخ لو كانت معي البندقية؟! أبو هشام أيضاً في
السجن.
فقلت لا فائدة في التحسر الآن احسموا أمركم فانقسمنا
فريقين موسى وحميد أرادا التصدي للمدفع الرشاش، أما أنا وفارس فاتجهنا صوب
البرلمان على أمل أن نتحقق ما يجري هناك وبعدها يتجه فارس إلى القلعة.
خشي فارس أن ينتقم الفرنسيون من العناصر الوطنية المحبوسة في القلعة.. كما أكدت الإشاعات فعلتهم بحراس المجلس النيابي.
وكنت بالطبع قلقاً على أبي هشام، إلا أن أولوياتي ساقتني إلى البرلمان أولاً ومن ثم أفكر بالقلعة.
وحين
تسللنا من شارع بغداد صوب البرلمان.. التقينا بحسان الذي أكد لنا أخبار
حصار القلعة.. وكان قلقاً على أبيه فتشجع حين وجدنا معاً.. وقرر فارس لدى
سماعه الأخبار الطيبة من حسان أن يتجه مباشرة إلى القلعة فتركاني ومضيا.
تسلل فارس وحسان إلى شارع بغداد في اتجاه بوابة الصالحية، ثم تخفيا في زقاق البحصة حتى وصلا إلى ساحة المرجة.
التقيا
هناك بمن أخبرهم أن جمهرة من مسلحي الأحياء يحاصرون القلعة يريدون أن
يحتلوها ويطلقوا سراح السجناء السياسيين فرأى أن ينضم إليهم ولم يكن فارس
مقتنعاً بجدوى مهاجمة المدفع الرشاش في المئذنة فالأسلحة التي لدى الشباب
لا توفر لهم سيطرة استراتيجية على مساحة واسعة. والخير أن يتوحدوا مع
الآخرين الذين يريدون أن يحرروا السجناء السياسيين، ففي القلعة أو سجنها
ينتظر هناك أبو حسان وأبو هشام وأبو فارس وربما راشد.
قصف المدافع
يملأ فضاء المدينة، وطلقات المدافع الرشاشة تحول سكينة الليل إلى إيقاعات
رتيبة، يتخللها طلقات البنادق المتفاوتة، وانفجارات القنابل اليدوية تشترك
في تشكيل أوركسترا الرعب التي سلبت دمشق الأمان وخلتها نهباً لقرارات قدر
مجهول.
كل شيء قلق وخائف ومتوجس، من الذي سينتصر في هذه المعركة
غير المتكافئة، المحتل أم القوى الوطنية المتناثرة والموزعة بتنظيماتها
الفورية وأسلحتها الصدئة. لكن هذا التوجس والخوف يتحول عن السجناء إلى رغبة
واحدة هو الظفر بالحرية.. ورغم تجمع بعض المناضلين على مداخل القلعة إلا
أنهم لا يستطيعون أن يزيحوا قوة الحرس الكبيرة عن مواقعها. أملهم الأكبر هو
أن يتعاون معهم بعض الدرك فيقنعون الطرف الآخر منهم ويمكنوهم من الدخول
إلى قواويش القلعة وإطلاق سراح سجنائها السياسيين.
غير أن السجناء في الداخل نفد صبرهم، وقرروا أن يعملوا بأنفسهم للحصول على حرياتهم....
كثافة
الحرس على أبواب القواويش خفيفة أو معدومة أثناء الليل، مما أعطاهم فرصة
للعمل بحرية، وخارج أعين المراقبة، كيف يمكنهم أن يزيحوا أقفال القاووش
الحديدية وقضبان الأبواب التي لا يلين لها قلب.
حين تخلو الساحة..
يقرر أبو هشام وأبو فارس وراشد الذي وجداه محبوساً في القلعة، العمل على
إزاحة البوابة الحديدية.. ليس لديهم مطارق ولا آلات تمكنهم من ذلك. إلا أن
هناك وسائل أخرى أكثر فعالية متى اجتمعت قوة الإرادة وإرادة القوة كما قال
لهم راشد.
يقسم أبو فارس السجناء إلى ثلاث فرق عددهم يقارب
الثمانين. تسلحوا بكل ما تصل إليه أيديهم من أدوات حادة معالق مسننة وأحزمة
وخلعوا بعض القضبان الحديدية من الجدران والشبابيك.
وقال أبو
فارس: احضروا بوابير الكاز وأشعلوها فجاء ثلاثة أنفار ببوابيرهم وأشعلوها
وجعلوها في غاية الحماوة. وأمرهم أبو فارس بالتناوب أن يسلطوا نار البوابير
على زعرور الباب الحديدي. فبادر أولهم إلى ذلك وحين لم يعد يطيق الحرارة
العالية حل محله الثاني، والثالث وهكذا، حتى ساخ الحديد ووهن تماسك وتوازن
باب القاووش وأصبحت قضبانه مفككة ومسنده الأساسي واهناً بفعل اللهيب.
فجاء
فريق آخر من السجناء وأخذوا يهزون الباب الحديدي هزاً عنيفاً حتى تزحزح عن
مواضعه وخرج السجناء زرافات ووحدانا في ظلمة الليل إلى غرفة الحرس التي لم
يكن فيها غير أبو علي الحارس. الذي يتمنى لهم الحرية أكثر مما يتمنوها
لأنفسهم.. فأعطاهم المفاتيح والبنادق.. وتوجهوا بعدها إلى القواويش وأطلقوا
سراح من وصلوا إليهم يحرقون القلعة كرمز للظلم والعبودية.. والواقع أنهم
لم يحرقوا منها غير سجنها المركزي أو بعض قواويشه التي توصلوا إليها،
ووضعوا الفرش والسرائر وشبوا لهيباً عارماً استنفر حرس القلعة في المراكز
الأخرى شغلوهم بالحريقة وتسللوا هم من جهة البوابة التي خف حراسها. وكان
بعض المسلحين من الخارج يحاولون أن يتسللوا إلى داخل القلعة فصار حرس
البوابة محصورين بين مناوشات الفارين من الداخل والمهاجمين من الخارج، وهم
لا يؤمنون بحبس عباد الله إثماً وعدواناً فتراخوا أمام المهاجمين من كلا
الطرفين وأفسحوا الطريق أمام السجناء للظفر بحرياتهم.. فخرجوا من السجن
الكبير إلى ساحة النضال الأوسع.
خرج أبو فارس وأبو هشام وراشد
وأبو حسان وآخرون معهم. وانضم إليهم فارس وحسان بعد عناق ودموع فرح وتوجهوا
جميعاً صوب البرلمان.. لينجدوا أبو راشد ومروان وأصحابهما ووجدوا عارف
يلتمس طريقاً آمنة للدخول إلى البرلمان.
يظنون أنهم آتون لفك الحصار عن البرلمان وما علموا أنه أصبح ضريحاً لقافلة أخرى من الشهداء.
أبو
راشد ومروان أخو عارف وكثيرون آخرون كانوا حرساً لهذا المجلس الأول نمى
حياة الجمهورية التي حجمها ومسخها المستعمر حتى لم تعد تعني شيئاً غير قناع
ديمقراطي زائف لشهوات ومصالح الاحتلال.
وجاء حسان إلى القلعة
بطنبر البوظ بعد أن أزال صندوقه فحمل أباه وكل من لم يكن قادراً على السير
مسافة طويلة واتجهوا جميعاً صوب البرلمان ترين الوحشة على البرلمان وقد ركز
على قبته العلم الفرنسي ملطخاً ببقع الدم. وما من حرس من الدرك على مداخله
أو في الحديقة.. غرفة الحرس مهشمة الشبابيك مخلعة الباب وفي مدخلها دركي
مضرج بدمه والسنكة في ظهره.
ـ راشد وعارف وهما يتفقدان الموقع
ويحاولان التسلل إلى قاعة المجلس. رأوا ما رأوا من فظائع التمثيل بالجثث
ومناظر الحرس المقتول في المدخل والدهاليز فتوجسوا خيفة وهم في حذر شديد.
تفحص راشد المقتول خيفة أن يكون أباه فاطمأن قليلاً لكنه تحرك صوب القاعة
قاطعاً الدهليز هو وعارف فرأوا دركاً آخرين مجندلين على أرض الممرات وقد
عاموا في دمائهم. وهرع عارف يتبين وجوههم الملطخة بالدم كما هرع راشد هذا
يفتش عن أخيه وذاك عن أبيه دون جدوى.
توجه راشد إلى الطابق الثاني
من المبنى وبقي أبو فارس وأبو هشام وأبو حسان وحسان في المدخل أما عارف
فتحول إلى مكاتب المجلس وعثر على علم سوري ممزق وملقى على الأرض، فتناوله
وصعد به إلى القبة التي تسقف قاعة المجلس الرئيسية والتي ركز في وسطها
العلم الفرنسي وصل إليه فانتزعه وركز محله العلم السوري ونزل إلى أصحابه
بروح تملؤها الكبرياء.
وانخطف عارف بعد ذلك إلى قاعة المجلس حيث
شاهد منظراً تقشعر لـه الأبدان، ورائحة القتلى من الدرك الذين يغطون أرض
القاعة قوية جداً ويتفقد القتلى فوجدها لا حركة ولا روح ويتبين في واحدها
وجه أبي راشد. وفي ظهره طعنات يبس الدم وتخثر على فوهاتها ويستمر عارف في
تفقده الجثث فيجد مروان أخاه جريحاً ولكنه كان في حالة جيدة يستدعي فارساً
وحساناً فيحملان جثة أبي راشد إلى مدخل البرلمان، لكي ينقلوه إلى الحارة
ويساعدهم حسان على حمله ووضعه على طنبر البوظ يغطون وجهه بغطرة أبو هشام.
ويساعدون
مروان على الخروج من القاعة التي امتلأت بالدم المخثر ورائحة الجثث
النتنة، والعيون المحملقة إلى السقف. وقص عليهم مروان كيف فاجأتهم قوة
فرنسية في الليل مع ضباط فرنسيين وجنود سنغاليين ويأسرون حرس المجلس كله،
يسمعون طلقات الرصاص من الخارج، فيختل توازنهم فأخذوا يطعنون الأسرى العزل
بالسنكات التي غطى بريقها الدم وأخذوا يطلقون الرصاص على الحرس عشوائياً.
فسقطوا جميعاً على الأرض وأخذ بعض العسكر يطعنون الجثث الملقاة على الأرض
طعنات قاتلة.
وتدرع مروان بجثة من جثث القتلى فلم تصيبه غير طعنه
في كتفه من غير مقتل بالإضافة إلى طعنة أخرى في ظهره أصابته في البداية
فسقط على الأرض ومع الذين سقطوا دون أية فرصة للدفاع عن النفس.
أركب
مروان على طنبر البوظ إلى جانب جثة أبي راشد وأخذ إلى المستشفى، وعولج
وتعافى وخرج منها وهو يحلم أحلاماً أشبه بالكوابيس هجمات الجنود السنغال
ظلت تفاجئه في نومه إلى أمد بعيد أما راشد فجاء إلى مروان يسأله عن أبيه
ومروان لا يملك جواباً، متجنباً النظر إلى جثمان أبو راشد.. وكشف راشد
الغطرة عن وجه الجثمان بعد أن ارتاب من البزة فوجد أباه مقتولاً فرمى نفسه
عليه وهو يبكي بكاءاً مراً وينشج من الحلق.
توجه إلى جامع أبي
النور مع حسان وأحضر التابوت الذي كان يتخبأ فيه حين يلعبون جميعاً لعبة
الطميمة مع الفتيان وتذكر كيف مرة جاء أبو راشد ذات يوم يتفقد ابنه، فقيل
لـه أنه يلعب الطميمه مع الفتيان.. يختبئ في حديقة المسجد أو في مدخله.
وحين يرفع غطاء التابوت يلقى عارفاً ممداً فيه!! فيؤخذ منه ويسأله عن راشد فيجده مختبئاً في خزانة الحارس.
الآن على عارف وراشد والآخرين أن يمددوا أبو راشد في هذا التابوت وينقلوه إلى عالم آخر.
رجع
حسان وراشد وعارف بالتابوت إلى حديقة البرلمان وحملوا جثمان أبي راشد
ووضعوه فيه، وتوجه الجميع في موكب حزين عن طريق عين الكرش من خلال الحقول
والبساتين التي شهدت طفولتهم وفتوتهم أعراسهم، ومآتمهم وتوجهوا من الحي إلى
جامع أبي النور ليصلوا على الشهيد ويطلب راشد تنفيذ وصية أبيه: إذا استشهد
أن يغسل بماء النهر قبل الدفن ونفذت وصيته فالقبر الذي ألحد فيه في سفح
الجبل يحمل مع الشهادة قطرات من النهر تحيله إلى أيكة أو شجرة...!!
أبو
راشد في التابوت الذي كنا نتخبأ فيه أطفالاً يحمل جثمانه إلى جامع أبي
النور ويغسل بماء النهر ويدفن إلى جانب أبي نمر ورويدة. الشهيد الذي تجمد
وهو ينتظر العودة إلى الأرض المقدسة.
والشهيدة التي لم تأثم فكانت ضحية عقلية جائرة تحرم الحب وتبيح القتل للحفاظ على الشرف بشكل منافق ومزيف.
راشد يركب فرس أبيه ويحمل صورة كبيرة له.
وجثمان أبي راشد على ظهر طنبر البوظ تجرد من صندوقه، وحل محله التابوت. فقالت المجذوبة: يا ضيعانك يا أبو نمر!!
كنت
تصيح كالديك على سور القدس لكي يطلع الفجر!! بعت روحك للنفي من أجل أن
تبقى حر الإرادة واليوم لا روح ولا إرادة أصبحنا جميعاً رهائن الدجل
العالمي!!
فقالت سيدة الفانتازيا: لم أكن أتصور لـه هذه النهاية. ألقى عن كاهله عبء حياته وارتاح.
لماذا لا نعطي ما لقيصر لقيصر؟!
فقالت المجذوبة لم نعد نفكر إلا بقيصر ولم نعد نحسب حساب إلا قيصر.. أما الله فقد أرسلناه إلى البئر وحفظنا فيه أبا نمر حتى الموت.
الموت حق.. لكن ليس هذا الموت!!!
فقال عارف: ماتت القدس فينا لأننا نحن موتى علينا أن نعمل لقدسنا الجديدة.. الحلم وحده لا يكفي.
فقالت
المجذوبة: إنه لعالم مليء بالشر. كيف يموت أبو نمر وتموت رويدة ويموت
أصلان ويذهب أبو هشام وأبو فارس للسجن؟ ويبقى فتحي أفندي وأمثاله مسلطين
على رؤوس العباد؟!
فقالت سيدة الفانتازيا.. بالحلم وحده نستطيع أن
نقضي على فتحي أفندي الذي يرقد في سرداب مشاعرنا. أن يكون مخبراً أن يكون
شرطياً أبو شرطوطة يسلم مواطنيه إلى زبانية الجحيم ويكبل راشد ليرسله إلى
الموت كلها كوم وكوم أخر قتل رويدة!!
فقالت المجذوبة: لم يقتل أبو راشد فحسب، أنا هي المقتولة وأنت لا ينتصر أمثال هؤلاء إلا بالشر.
فقال
عارف: انتظرا.. لا تستسلما لرهافة حواء وحسها بالغبن لم تنته الرواية بعد،
لقد لاقى كل نهايته التي يستحق. والأحباء الذين لاقوا ما لا يستحقون مثل
أبي نمر تركوا بذورهم في تربة الأجيال..
أبو راشد.. أصلان.. أبو
نمر، لم يموتوا بل حققوا الحلم، وكونوا جزءاً من شخصيتنا التي لا تنمو إلا
بالتضحية والمحبة بالتفاني وحده يمكن أن نكون من جديد.
فقالت سيدة الفانتازيا: كيف أسدل الستار على هؤلاء في النهاية.
فأخذ عارف الألبوم وأخذ يقلب الصور ويقول.. التاريخ لا يموت إنه بذرة الحاضر.
إنه رحم للغد وشرع يكمل ما بدأه.
فقالت
سيدة الفانتازيا: عرفنا عنك أشياء كثيرة إلا الدرج المختوم.. عرفنا أيامك
الأولى، وعرفنا النمر في البئر.. لكن لن نبلغ قرار بئرك...
فقال عارف سيأتي يوم تعرفين ما في هذا الدرج وكل شيء بأوان.
إنه رحلة أخرى في الجسد ولا يتكون جسد حتى يبلى آخر..
فقالت
المجذوبة: خبرات الحياة والموت في الأيام الأولى هي الأبقى، والتوق إلى
الحرية هو المكون الأول لحلم الإنسان الذي فيما يضطهده الأخر يحاول أن
يتوحد به.
فقالت سيدة الفانتازيا.. عدنا إلى الجذب؟!
فقال
عارف: نعم نعم.. لولا هذا الجذب لبقيت أنا في المنفى.. اكتملت الدائرة
التي كسرتها في زمن مبكر وأنا مدين للسيدتين في اكتمالها.. سيدة الجذب هذه
وسيدة صلاة الرمز.
فقالت سيدة الفانتازيا: إنه حلم اليقظة كأنك ما
رحت ولا جئت... فتحت دروجاً كثيرة للحياة والموت والطفولة والحلم.. وتبقى
دروج أخرى تنتظرك. هناك نبع خفي يغذيك من الداخل علينا أن نستكشف أغواره..
لكن اسمحوا لي أن نفترق الآن سأكون مشغولة في مؤتمر للتحليل النفسي في آثينا وعندما أعود نلتقي من جديد لنكمل مسيرتنا.
نهضت ونهضت خلفها المجذوبة تودعها على أمل اللقاء مرة أخر
استيقظت
صبيحة هذا اليوم على لعلعة الرصاص بعيد صلاة الفجر بقليل. المدينة كلها
متوترة الأعصاب. انتهت الحرب، بعد أن دخل الإنجليز دمشق. الفرنسيون يأبون
أن يسلموا الحكومة الوطنية مقاليد السلطة، كأن الحرب لم تقم. ولم تقطع
الحكومات المنتدبة فرنسا وإنجلترا وعوداً للشعوب المنتدب عليها، بالاستقلال
والحرية وجلاء الجيوش الأجنبية عن أراضيها.
لقد احتل العسكر
السنغاليون مبنى البرلمان وذبحوا من فيه من قوة الدرك الوطنية، ونصبوا
مدافع رشاشة على مفارق الطرق الاستراتيجية، وعلى التلال المحيطة بسهول
المدينة، وأحيائها التي تغلي كالمرجل. والمدفع الرشاش الذي أيقظني كان
قريباً من بيتنا على سفوح قاسيون، لا تفصلنا عنه سوى البساتين الغناء التي
بيننا وبين شوارع المدينة الرئيسية، لقد نصب الفرنسيون هذا المدفع على
مئذنة جامع بعيرة قرب السبع بحرات، لأنها تكشف حولها كل المنطقة لا سيما حي
الأكراد، وحي الصالحية والمهاجرين وأحياء العقيبة والعمارة إلى ناحية
القصاع. وكان المسجد يقع على كتف قشلة عسكرية تكفلت التحصينات التي أقامها
الفرنسيون أن تحميها. وقام هذا المدفع الرشاش على المئذنة يلعلع آن خروج
المصلين من صلاة الصبح، إرهاباً لهم من أن تسول لهم أنفسهم أن يتحرشوا
بالقشلة، أو أن يهاجموها من أطراف البساتين التي كانت تحيط بها من ناحية
الأحياء الغاضبة.
فرنسا تسوق الجنود السنغال السود إلى الخدمة العسكرية هم والمغاربة ليحموا مستعمراتها. بينما هم أنفسهم مستعمرون أيضاً.
لقد
حاربوا في صفوف جيوشها، وشاركوا في تحرير أراضيها من النازية. ولكن فرنسا
تأبى أن تمنحهم حريتهم وحقوقهم كما تأبى علينا أن يكون لنا حكومتنا
الوطنية.
وقد حارب مجندون سوريون في صفوف الحلفاء في طبرق ضد الجيوش النازية.
المدفع الرشاش يحتاج إلى من يلقمه بالذخيرة، وإلى من يتولى إطلاق الرصاص، ولشخص ثالث عليه مسؤولية أن يؤمن صناديق الذخيرة للملقم.
الرصاص
يلعلع بصورة متقطعة، وأصوات انفجارات تنبعث من آن لآخر من قلب المدينة
وأطرافها. ودخان يتصاعد هنا وهناك، يصاحب هذه الانفجارات أو ينبعث من حرائق
متفرقة. من فعل المقاومة التي يضطلع بها سكان المدينة العزل إلا من أسلحة
عتيقة حارب بها أسلافهم في الحرب العالمية الأولى أو في معركة ميسلون.
أخي
الكبير مروان يخدم في قوة الدرك التي تحرس مبنى البرلمان كرمز للحكم
الوطني والسيادة الوطنية، لكن قوى الاحتلال تصب عليه قنابل غضبها فتحرقه
وتدمره وتذبح الحامية السورية من الدرك التي تتولى حراسته عن بكرة أبيها.
بعد
صلاة الصبح جاء إلى موسى وفارس وحميد. لم أكن أستطيع الخروج ووالدتي
مستيقظة في مثل هذا الوقت المبكر سيما أن الأمن مفقود في مثل هذه الظروف
وخروجي إلى المدينة مغامرة لا تؤمن عواقبها. وحين أسمع موسى يصفر لي مقلداً
صوت الشحرور أيقن أن رفيقيّ ينتظراني في الخارج.
كنت قد ارتديت
قمبازي وحملت قبقابي بيدي وانتهزت انشغال والدي بالصلاة وسرقت خطوات قليلة
إلى أن صرت أمام باب الزقاق، فسحبت المزلاج سحباً خفيفاً لا يشعر به من في
الدار. وخرجت إلى موسى وفارس وطلبت منهما أن يخلعا القباقيب، وركضنا حفاة
حتى بلغنا نهاية الحارة فلبسنا القباقيب. واستلمنا طريق عين الكرش بين
البساتين. وفي خلال أقل من عشر دقائق كنا على كتف القشلة العسكرية التي تقع
في نهاية البساتين التي يشقها شارع بغداد إلى الغوطة.
قال موسى
وهو أكبرنا عمراً، لم أجد من مخلفات والدي غير هذا المسدس. لقد مات شهيداً
في ميسلون. وذهبت بندقيته العثملية. لم يبقَ غير هذا المسدس علينا أن ننتهز
فرصة ونصعد إلى المئذنة. سأتولى أنا إطلاق النار على طاقم المترليوز
الهوشكيس المدفع الرشاش إنه يرعب المدينة ويمنع المقاومين من المساندة
والقتال.
في المسدس خمس طلقات تكفي للسيطرة على الموقف طاقم
المدفع الرشاش ثلاثة أو أربعة وأنا كفيل بهم جميعاً. ليس من العدالة أن
يذهب دم والدي هدراً.
فقال فارس وجنود القشلة من يتولى أمرهم إذ
تنبه أحد منهم إلينا، قال موسى: علينا أن ننتبه إلى الحرس فقط والآخرون
يغطون في حلاوة النوم.
تزحف أنت إلى مدخل المئذنة وتقوم أنت بمشاغلتهم بالصعود وتمهدان لي لتنفيذ العملية.
قلت:
المسدس لا يكفي، بيننا وبين مبنى البرلمان أقل من مسيرة خمس دقائق. نذهب
إلى هناك ونستعين بأخي مروان، ليعطينا بندقية تسهل علينا تنفيذ المهمة.
موسى:
يبدو أنك لم تسمع ما حصل ليلة البارحة، لقد ذبح الفرنسيون قوة الدرك عن
بكرة أبيها. وفرصة أخيك في النجاة من هذه المذبحة ضعيفة، وأنا آسف لكي أنعق
بوجهك كغراب البين.
نبقى ثلاثتنا معاً يمكن أن نحقق عملاً إذا ما
بقينا معاً ولو كان سلاحناً محدوداً لا بد. ستعوض ذلك بالحذر والفطنة
وانتهاز الفرصة وصلابة الإرادة. المقاومة ليست إلا عملاً رمزياً يتيح
لروحنا الجماعية أن تبقى واحدة، هذه الروح التي يريد أن يمزقها المحتل
بغطرسته وقوة سلاحه. فيدمر الرموز الوطنية كالبرلمان وينفي رجالات الحكومة
الوطنية ويذبح قوة الدرك، ليقول لنا: أنتم عزل لا حول لكم ولا طول وما من
أمل لمقارعة القوة، العين لا تقاوم المخرز. فما عليكم إلا استسلام
والخنوع.
أملنا في الصعود إلى المئذنة ضعيف، لا بد أن يكون باب
المسجد محروساً، لا سيما المدخل إلى المئذنة، والذهاب إلى مبنى البرلمان
الآن أكثر ضرورة، لا لأن أخي هناك ربما يكون قد ذبح مع المذبوحين، ولنفرض
جدلاً أنه لم ينج أحد من قوة البرلمان فالتسلل إلى داخله أسهل بعد تدميره
وحرقه وربما وقعنا على بعض الأسلحة هناك لنفيد منها في احتلال المئذنة،
وضرب طاقم المدفع الرشاش بأسلحة قادرة وكافية.
ـ أخشى أن ينتشر
ضوء النهار فتفوتنا الفرصة. وتكشفنا أعين الرقابة. وتساءلت: ليس من الصعب
على هؤلاء الجنود أن يحتلوا المئذنة، لكن كيف صلى المؤمنون صلاتهم بدون
آذان؟!
ربما تركوا مئذنة المسجد فهم عزل إلا من الإيمان. فليقيموا
صلاتهم أو فليستمعوا إلى آذان الفجر في الداخل في دفق الدم ونبض القلب.
وليستجيبوا إلى البارئ الأعلى الذي يطل عليهم وعلى المسجد والمئذنة، وما
يحيط بها من مظاهرة الخصب وفصول المقاومة.
لقد عطل الأذان واحتلت المئذنة فهل تعطل الصلاة؟!
الحق
مع موسى أن الدم الذي سفح في ميسلون يصبح طيوراً، أسراب غمام لا تمطر
الأرض إلا إذا استسقى الدم بالدم حتى يقلع الغاوي عن غيه، وترجع الأرض إلى
أصحابها.
المئذنة التي انتصبت تطعن الفضاء باسم الله المغني
والدعوة إليه خمس مرات في اليوم، استبيحت وصارت مربضاً لمدفع رشاش يطلق
خمسمائة طلقة في الدقيقة الواحدة!
ليس للخير قدرة على القتل بهذه
السعة. الحروب كلها كافرة بغايات دنيئة، دماء البشرية تنزف والأمهات يحدبن
على أطفالهن يحلمن برجوع أزواجهن الذين لن يروا وجوههم مرة أخرى.
هذا المدفع الرشاش كافٍ ليقتل المدينة كلها في غضون أيام باسم التقدم ووصاية الشعوب الجارحة على الشعوب الضعيفة.
لكن
هل يخلع عارف أخاه من ذاكرته؟! إنه في مبنى البرلمان وهو على مرمى صوت منه
وفرص نجاح العملية التي يفكر بها موسى معدومة. هل يفكر حقاً موسى باسترجاع
المئذنة وكف يرد الغدر عنها؟ أم يفكر بالثأر لأبيه الذي يعانق بندقيته على
تراب ميسلون في رقدته الأخيرة في باطن الأرض.
إن موسى كأبيه
يحارب ببندقية غير مرئية، وبذخيرة لا يعرفها إلا من ارتبطت أرواحهم بخيوط
ضوئية بكواكب مجهولة جوهرها الإنسان وحب البشر. وإلا كيف يتصدى مسدس صدئ
"أبو طاحونة" بطلقات معدودة عبأها موسى بنفسه تتصدى لمدفع رشاش لا حد
لقدرته على الردع والقتل. أتقاوم العين المخرز؟!
هل يريد موسى الانتقام أم العدل، هل القتل يوقف القتل والقصاص يفتح الطريق إلى الحياة؟
هل
يطالب موسى بأن نقلع عن هذه المجازفة. قد يموتون جميعاً بلحظة والإرادة
ماذا تصنع الإرادة؟ أمام الدبابة والمدفع الرشاش والطيارة؟! وماذا يريد هو،
لماذا نهض من فراشه وحلاوة النوم وانضم إلى موسى؟ هل هو الفضول الذي
أثارته لعلعة الرصاص في الفجر؟! أم أنه قلق على أخيه الذي يحرس البرلمان؟!
لم يجئ ليشترك بهذه العملية الغامضة النتيجة، لم يجيء ليثأر
لشهداء ميسلون، يريد سلامة أخيه من الذبح، ولكن كيف يكون ذلك والمدينة
ترتعد أوصالها من أخبار المذبحة؟!
ربما ضخمت الإشاعات الواقعة،
ربما اخترع موسى هذه الخبرية حتى يعبئه ويحشده للاشتراك معه في تعطيل
المدفع الرشاش الذي عطّل الأذان. إنه يصمم على مفاجأة طاقم من العسكر
المأجورين!!
موسى يهمس: خلنا نتلطا بجدران القشلة، لنصل إلى المسجد ومنه إلى مدخل المئذنة.
ـ والمدفع الرشاش.
ـ المدفع الرشاش لا يطالنا، نحن قريبون من المئذنة ومدى الرمي لهذا السلاح يقصد به المسافات الأفقية الواسعة.
ـ
ليس يعقل أن يعول الحرس فقط على المدفع الرشاش. لديهم مسدسات وبنادق وإذا
رصدونا.. يمكن أن يقضوا علينا قبل أن نصل إلى مدخل المئذنة.
ـ هذا ممكن.
ـ وممكن أيضاً أن يكون هناك جنود آخرون في القشلة تقوم بدوريات مناوبة خوفاً من الطوارئ.
ـ
ممكن أيضاً، لكن لنستطلع الأمر من خلال بعض الطاقات في جدران القشلة، انظر
لا يوجد غير طاقم آخر للمدفع الرشاش يتناوب مع القائمين عليه الآن
لاستمرار وظيفة المدفع الرشاش.
ـ نظرت من الطاقة وتأكدت مما يقول موسى بعد أن استطلع الأمر من طاقة قريبة منه. وأردف موسى:
يبدو
أن غليان المدينة أرهب حامية القشلة فتركها الضباط الفرنسيون لثلة من
الجنود السنغال، ليمت هؤلاء إنهم أعدوا لمثل هذا الغرض، الموت لهم ولضباطهم
الرفاه والراحة.
استغربت الأمر ربما تطرف القشلة عن المراكز العسكرية الأخرى المتجمعة في البرامكة والمزة والقلعة هو السبب.
ألأّن القشلة متطرفة؟! تركوا فيها قليلاً من الجند.. الحرب النفسية هي المقصودة.
أن يكبح المدفع الرشاش روح المقاومة وتخلد الأحياء للسكون. وألا تساورها فكرة الانقضاض على السلطة.
أخذ
موسى يتحسس المسدس بأصابعه برفق، ويدور الطاحونة ويتفقد رصاصاته بتصميم،
وهو يقول: إذا بقيت معنا هنا في هذه العملية.. نذهب معك بعدها إلى
البرلمان، أخشى أن يرصدنا الجند إذا سرنا في الشارع الموصل إلى البرلمان،
والجدران هنا تسترنا عن مجال رؤيتهم. فلا بد لنا من أن ننقض عليهم على حين
غرة وإذا نجحنا تصبح الطريق إلى البرلمان آمنة.
أستطيع أن أتسلل
إلى شارع البرلمان، وأنت وحدك الذي لديه مسدس أما أنا فلا يمكن أن أهاجم
البندقية بخنجر.. وأنا قلق على أخي مروان.. اسمع يا موسى إن خطة الهجوم على
المئذنة والمدفع الرشاش ليست واقعية فلنتجه جميعاً إلى البرلمان متسللين
وليس من فائدة في مواجهة المدفع الرشاش!!
أما فارس فقال لا بد لي
من أن أتوجه إلى القلعة فأبي ما يزال محبوساً فيها وترامت إلى إشاعات أن
الأهالي وبعض عناصر المقاومة يحيطون بالقلعة. قد تحين لي فرصة أساعد فيها
هؤلاء وإعادة حرية أبي. آخ لو كانت معي البندقية؟! أبو هشام أيضاً في
السجن.
فقلت لا فائدة في التحسر الآن احسموا أمركم فانقسمنا
فريقين موسى وحميد أرادا التصدي للمدفع الرشاش، أما أنا وفارس فاتجهنا صوب
البرلمان على أمل أن نتحقق ما يجري هناك وبعدها يتجه فارس إلى القلعة.
خشي فارس أن ينتقم الفرنسيون من العناصر الوطنية المحبوسة في القلعة.. كما أكدت الإشاعات فعلتهم بحراس المجلس النيابي.
وكنت بالطبع قلقاً على أبي هشام، إلا أن أولوياتي ساقتني إلى البرلمان أولاً ومن ثم أفكر بالقلعة.
وحين
تسللنا من شارع بغداد صوب البرلمان.. التقينا بحسان الذي أكد لنا أخبار
حصار القلعة.. وكان قلقاً على أبيه فتشجع حين وجدنا معاً.. وقرر فارس لدى
سماعه الأخبار الطيبة من حسان أن يتجه مباشرة إلى القلعة فتركاني ومضيا.
تسلل فارس وحسان إلى شارع بغداد في اتجاه بوابة الصالحية، ثم تخفيا في زقاق البحصة حتى وصلا إلى ساحة المرجة.
التقيا
هناك بمن أخبرهم أن جمهرة من مسلحي الأحياء يحاصرون القلعة يريدون أن
يحتلوها ويطلقوا سراح السجناء السياسيين فرأى أن ينضم إليهم ولم يكن فارس
مقتنعاً بجدوى مهاجمة المدفع الرشاش في المئذنة فالأسلحة التي لدى الشباب
لا توفر لهم سيطرة استراتيجية على مساحة واسعة. والخير أن يتوحدوا مع
الآخرين الذين يريدون أن يحرروا السجناء السياسيين، ففي القلعة أو سجنها
ينتظر هناك أبو حسان وأبو هشام وأبو فارس وربما راشد.
قصف المدافع
يملأ فضاء المدينة، وطلقات المدافع الرشاشة تحول سكينة الليل إلى إيقاعات
رتيبة، يتخللها طلقات البنادق المتفاوتة، وانفجارات القنابل اليدوية تشترك
في تشكيل أوركسترا الرعب التي سلبت دمشق الأمان وخلتها نهباً لقرارات قدر
مجهول.
كل شيء قلق وخائف ومتوجس، من الذي سينتصر في هذه المعركة
غير المتكافئة، المحتل أم القوى الوطنية المتناثرة والموزعة بتنظيماتها
الفورية وأسلحتها الصدئة. لكن هذا التوجس والخوف يتحول عن السجناء إلى رغبة
واحدة هو الظفر بالحرية.. ورغم تجمع بعض المناضلين على مداخل القلعة إلا
أنهم لا يستطيعون أن يزيحوا قوة الحرس الكبيرة عن مواقعها. أملهم الأكبر هو
أن يتعاون معهم بعض الدرك فيقنعون الطرف الآخر منهم ويمكنوهم من الدخول
إلى قواويش القلعة وإطلاق سراح سجنائها السياسيين.
غير أن السجناء في الداخل نفد صبرهم، وقرروا أن يعملوا بأنفسهم للحصول على حرياتهم....
كثافة
الحرس على أبواب القواويش خفيفة أو معدومة أثناء الليل، مما أعطاهم فرصة
للعمل بحرية، وخارج أعين المراقبة، كيف يمكنهم أن يزيحوا أقفال القاووش
الحديدية وقضبان الأبواب التي لا يلين لها قلب.
حين تخلو الساحة..
يقرر أبو هشام وأبو فارس وراشد الذي وجداه محبوساً في القلعة، العمل على
إزاحة البوابة الحديدية.. ليس لديهم مطارق ولا آلات تمكنهم من ذلك. إلا أن
هناك وسائل أخرى أكثر فعالية متى اجتمعت قوة الإرادة وإرادة القوة كما قال
لهم راشد.
يقسم أبو فارس السجناء إلى ثلاث فرق عددهم يقارب
الثمانين. تسلحوا بكل ما تصل إليه أيديهم من أدوات حادة معالق مسننة وأحزمة
وخلعوا بعض القضبان الحديدية من الجدران والشبابيك.
وقال أبو
فارس: احضروا بوابير الكاز وأشعلوها فجاء ثلاثة أنفار ببوابيرهم وأشعلوها
وجعلوها في غاية الحماوة. وأمرهم أبو فارس بالتناوب أن يسلطوا نار البوابير
على زعرور الباب الحديدي. فبادر أولهم إلى ذلك وحين لم يعد يطيق الحرارة
العالية حل محله الثاني، والثالث وهكذا، حتى ساخ الحديد ووهن تماسك وتوازن
باب القاووش وأصبحت قضبانه مفككة ومسنده الأساسي واهناً بفعل اللهيب.
فجاء
فريق آخر من السجناء وأخذوا يهزون الباب الحديدي هزاً عنيفاً حتى تزحزح عن
مواضعه وخرج السجناء زرافات ووحدانا في ظلمة الليل إلى غرفة الحرس التي لم
يكن فيها غير أبو علي الحارس. الذي يتمنى لهم الحرية أكثر مما يتمنوها
لأنفسهم.. فأعطاهم المفاتيح والبنادق.. وتوجهوا بعدها إلى القواويش وأطلقوا
سراح من وصلوا إليهم يحرقون القلعة كرمز للظلم والعبودية.. والواقع أنهم
لم يحرقوا منها غير سجنها المركزي أو بعض قواويشه التي توصلوا إليها،
ووضعوا الفرش والسرائر وشبوا لهيباً عارماً استنفر حرس القلعة في المراكز
الأخرى شغلوهم بالحريقة وتسللوا هم من جهة البوابة التي خف حراسها. وكان
بعض المسلحين من الخارج يحاولون أن يتسللوا إلى داخل القلعة فصار حرس
البوابة محصورين بين مناوشات الفارين من الداخل والمهاجمين من الخارج، وهم
لا يؤمنون بحبس عباد الله إثماً وعدواناً فتراخوا أمام المهاجمين من كلا
الطرفين وأفسحوا الطريق أمام السجناء للظفر بحرياتهم.. فخرجوا من السجن
الكبير إلى ساحة النضال الأوسع.
خرج أبو فارس وأبو هشام وراشد
وأبو حسان وآخرون معهم. وانضم إليهم فارس وحسان بعد عناق ودموع فرح وتوجهوا
جميعاً صوب البرلمان.. لينجدوا أبو راشد ومروان وأصحابهما ووجدوا عارف
يلتمس طريقاً آمنة للدخول إلى البرلمان.
يظنون أنهم آتون لفك الحصار عن البرلمان وما علموا أنه أصبح ضريحاً لقافلة أخرى من الشهداء.
أبو
راشد ومروان أخو عارف وكثيرون آخرون كانوا حرساً لهذا المجلس الأول نمى
حياة الجمهورية التي حجمها ومسخها المستعمر حتى لم تعد تعني شيئاً غير قناع
ديمقراطي زائف لشهوات ومصالح الاحتلال.
وجاء حسان إلى القلعة
بطنبر البوظ بعد أن أزال صندوقه فحمل أباه وكل من لم يكن قادراً على السير
مسافة طويلة واتجهوا جميعاً صوب البرلمان ترين الوحشة على البرلمان وقد ركز
على قبته العلم الفرنسي ملطخاً ببقع الدم. وما من حرس من الدرك على مداخله
أو في الحديقة.. غرفة الحرس مهشمة الشبابيك مخلعة الباب وفي مدخلها دركي
مضرج بدمه والسنكة في ظهره.
ـ راشد وعارف وهما يتفقدان الموقع
ويحاولان التسلل إلى قاعة المجلس. رأوا ما رأوا من فظائع التمثيل بالجثث
ومناظر الحرس المقتول في المدخل والدهاليز فتوجسوا خيفة وهم في حذر شديد.
تفحص راشد المقتول خيفة أن يكون أباه فاطمأن قليلاً لكنه تحرك صوب القاعة
قاطعاً الدهليز هو وعارف فرأوا دركاً آخرين مجندلين على أرض الممرات وقد
عاموا في دمائهم. وهرع عارف يتبين وجوههم الملطخة بالدم كما هرع راشد هذا
يفتش عن أخيه وذاك عن أبيه دون جدوى.
توجه راشد إلى الطابق الثاني
من المبنى وبقي أبو فارس وأبو هشام وأبو حسان وحسان في المدخل أما عارف
فتحول إلى مكاتب المجلس وعثر على علم سوري ممزق وملقى على الأرض، فتناوله
وصعد به إلى القبة التي تسقف قاعة المجلس الرئيسية والتي ركز في وسطها
العلم الفرنسي وصل إليه فانتزعه وركز محله العلم السوري ونزل إلى أصحابه
بروح تملؤها الكبرياء.
وانخطف عارف بعد ذلك إلى قاعة المجلس حيث
شاهد منظراً تقشعر لـه الأبدان، ورائحة القتلى من الدرك الذين يغطون أرض
القاعة قوية جداً ويتفقد القتلى فوجدها لا حركة ولا روح ويتبين في واحدها
وجه أبي راشد. وفي ظهره طعنات يبس الدم وتخثر على فوهاتها ويستمر عارف في
تفقده الجثث فيجد مروان أخاه جريحاً ولكنه كان في حالة جيدة يستدعي فارساً
وحساناً فيحملان جثة أبي راشد إلى مدخل البرلمان، لكي ينقلوه إلى الحارة
ويساعدهم حسان على حمله ووضعه على طنبر البوظ يغطون وجهه بغطرة أبو هشام.
ويساعدون
مروان على الخروج من القاعة التي امتلأت بالدم المخثر ورائحة الجثث
النتنة، والعيون المحملقة إلى السقف. وقص عليهم مروان كيف فاجأتهم قوة
فرنسية في الليل مع ضباط فرنسيين وجنود سنغاليين ويأسرون حرس المجلس كله،
يسمعون طلقات الرصاص من الخارج، فيختل توازنهم فأخذوا يطعنون الأسرى العزل
بالسنكات التي غطى بريقها الدم وأخذوا يطلقون الرصاص على الحرس عشوائياً.
فسقطوا جميعاً على الأرض وأخذ بعض العسكر يطعنون الجثث الملقاة على الأرض
طعنات قاتلة.
وتدرع مروان بجثة من جثث القتلى فلم تصيبه غير طعنه
في كتفه من غير مقتل بالإضافة إلى طعنة أخرى في ظهره أصابته في البداية
فسقط على الأرض ومع الذين سقطوا دون أية فرصة للدفاع عن النفس.
أركب
مروان على طنبر البوظ إلى جانب جثة أبي راشد وأخذ إلى المستشفى، وعولج
وتعافى وخرج منها وهو يحلم أحلاماً أشبه بالكوابيس هجمات الجنود السنغال
ظلت تفاجئه في نومه إلى أمد بعيد أما راشد فجاء إلى مروان يسأله عن أبيه
ومروان لا يملك جواباً، متجنباً النظر إلى جثمان أبو راشد.. وكشف راشد
الغطرة عن وجه الجثمان بعد أن ارتاب من البزة فوجد أباه مقتولاً فرمى نفسه
عليه وهو يبكي بكاءاً مراً وينشج من الحلق.
توجه إلى جامع أبي
النور مع حسان وأحضر التابوت الذي كان يتخبأ فيه حين يلعبون جميعاً لعبة
الطميمة مع الفتيان وتذكر كيف مرة جاء أبو راشد ذات يوم يتفقد ابنه، فقيل
لـه أنه يلعب الطميمه مع الفتيان.. يختبئ في حديقة المسجد أو في مدخله.
وحين يرفع غطاء التابوت يلقى عارفاً ممداً فيه!! فيؤخذ منه ويسأله عن راشد فيجده مختبئاً في خزانة الحارس.
الآن على عارف وراشد والآخرين أن يمددوا أبو راشد في هذا التابوت وينقلوه إلى عالم آخر.
رجع
حسان وراشد وعارف بالتابوت إلى حديقة البرلمان وحملوا جثمان أبي راشد
ووضعوه فيه، وتوجه الجميع في موكب حزين عن طريق عين الكرش من خلال الحقول
والبساتين التي شهدت طفولتهم وفتوتهم أعراسهم، ومآتمهم وتوجهوا من الحي إلى
جامع أبي النور ليصلوا على الشهيد ويطلب راشد تنفيذ وصية أبيه: إذا استشهد
أن يغسل بماء النهر قبل الدفن ونفذت وصيته فالقبر الذي ألحد فيه في سفح
الجبل يحمل مع الشهادة قطرات من النهر تحيله إلى أيكة أو شجرة...!!
أبو
راشد في التابوت الذي كنا نتخبأ فيه أطفالاً يحمل جثمانه إلى جامع أبي
النور ويغسل بماء النهر ويدفن إلى جانب أبي نمر ورويدة. الشهيد الذي تجمد
وهو ينتظر العودة إلى الأرض المقدسة.
والشهيدة التي لم تأثم فكانت ضحية عقلية جائرة تحرم الحب وتبيح القتل للحفاظ على الشرف بشكل منافق ومزيف.
راشد يركب فرس أبيه ويحمل صورة كبيرة له.
وجثمان أبي راشد على ظهر طنبر البوظ تجرد من صندوقه، وحل محله التابوت. فقالت المجذوبة: يا ضيعانك يا أبو نمر!!
كنت
تصيح كالديك على سور القدس لكي يطلع الفجر!! بعت روحك للنفي من أجل أن
تبقى حر الإرادة واليوم لا روح ولا إرادة أصبحنا جميعاً رهائن الدجل
العالمي!!
فقالت سيدة الفانتازيا: لم أكن أتصور لـه هذه النهاية. ألقى عن كاهله عبء حياته وارتاح.
لماذا لا نعطي ما لقيصر لقيصر؟!
فقالت المجذوبة لم نعد نفكر إلا بقيصر ولم نعد نحسب حساب إلا قيصر.. أما الله فقد أرسلناه إلى البئر وحفظنا فيه أبا نمر حتى الموت.
الموت حق.. لكن ليس هذا الموت!!!
فقال عارف: ماتت القدس فينا لأننا نحن موتى علينا أن نعمل لقدسنا الجديدة.. الحلم وحده لا يكفي.
فقالت
المجذوبة: إنه لعالم مليء بالشر. كيف يموت أبو نمر وتموت رويدة ويموت
أصلان ويذهب أبو هشام وأبو فارس للسجن؟ ويبقى فتحي أفندي وأمثاله مسلطين
على رؤوس العباد؟!
فقالت سيدة الفانتازيا.. بالحلم وحده نستطيع أن
نقضي على فتحي أفندي الذي يرقد في سرداب مشاعرنا. أن يكون مخبراً أن يكون
شرطياً أبو شرطوطة يسلم مواطنيه إلى زبانية الجحيم ويكبل راشد ليرسله إلى
الموت كلها كوم وكوم أخر قتل رويدة!!
فقالت المجذوبة: لم يقتل أبو راشد فحسب، أنا هي المقتولة وأنت لا ينتصر أمثال هؤلاء إلا بالشر.
فقال
عارف: انتظرا.. لا تستسلما لرهافة حواء وحسها بالغبن لم تنته الرواية بعد،
لقد لاقى كل نهايته التي يستحق. والأحباء الذين لاقوا ما لا يستحقون مثل
أبي نمر تركوا بذورهم في تربة الأجيال..
أبو راشد.. أصلان.. أبو
نمر، لم يموتوا بل حققوا الحلم، وكونوا جزءاً من شخصيتنا التي لا تنمو إلا
بالتضحية والمحبة بالتفاني وحده يمكن أن نكون من جديد.
فقالت سيدة الفانتازيا: كيف أسدل الستار على هؤلاء في النهاية.
فأخذ عارف الألبوم وأخذ يقلب الصور ويقول.. التاريخ لا يموت إنه بذرة الحاضر.
إنه رحم للغد وشرع يكمل ما بدأه.
فقالت
سيدة الفانتازيا: عرفنا عنك أشياء كثيرة إلا الدرج المختوم.. عرفنا أيامك
الأولى، وعرفنا النمر في البئر.. لكن لن نبلغ قرار بئرك...
فقال عارف سيأتي يوم تعرفين ما في هذا الدرج وكل شيء بأوان.
إنه رحلة أخرى في الجسد ولا يتكون جسد حتى يبلى آخر..
فقالت
المجذوبة: خبرات الحياة والموت في الأيام الأولى هي الأبقى، والتوق إلى
الحرية هو المكون الأول لحلم الإنسان الذي فيما يضطهده الأخر يحاول أن
يتوحد به.
فقالت سيدة الفانتازيا.. عدنا إلى الجذب؟!
فقال
عارف: نعم نعم.. لولا هذا الجذب لبقيت أنا في المنفى.. اكتملت الدائرة
التي كسرتها في زمن مبكر وأنا مدين للسيدتين في اكتمالها.. سيدة الجذب هذه
وسيدة صلاة الرمز.
فقالت سيدة الفانتازيا: إنه حلم اليقظة كأنك ما
رحت ولا جئت... فتحت دروجاً كثيرة للحياة والموت والطفولة والحلم.. وتبقى
دروج أخرى تنتظرك. هناك نبع خفي يغذيك من الداخل علينا أن نستكشف أغواره..
لكن اسمحوا لي أن نفترق الآن سأكون مشغولة في مؤتمر للتحليل النفسي في آثينا وعندما أعود نلتقي من جديد لنكمل مسيرتنا.
نهضت ونهضت خلفها المجذوبة تودعها على أمل اللقاء مرة أخر